التصنيفات
روايات

رحلة رائعة عبر 3 أديان و7 حدود

عن رواية أولغا توكارتشوك “كتب يعقوب”

عندما فازت ’أولغا توكارتشوك بجائزة نوبل للآداب عام 2018 تشاركتها مع المؤلف النمساوي بيتر هندكه الذي أثار فوزه الكثير من الجدل بسبب تعاطفه مع سلوبودان ميلوسوفيتش مجرم الحرب ومرتكب مجازر كوسوفو. أدى ذلك للتركيز على هندكه وصرف أولغا على أنها الفائز الثاني، كما نرى في تقرير الجزيرة حيث لا يرد ذكر أولغا إلى بجملتين توضحان أنها تشاركت الجائزة مع الكاتب (حتى اسمها مكتوب خطأ). في حين أن هذا أدى إلى تهميش اسم أولغا وعملها، إلا ان الدعاية السيئة لعبت لصالح هندكه وترجمت الكثير من أعماله إلى العربية، رغم أنه من المتوقع أن يكون العرب والمسلمون الأكثر نفورًا منه بسبب آراءه اليمينة الكارهة للمسلمين.

زاد من بعد أولغا عن الساحة العربية أن كتاباتها بالبولندية، والعمل الوحيد المترجم لها اليوم هو عن الوسيط الإنكليزي، لكن يبقى فرق الاهتمام شاسعًا، ففي ليلة فوز ’آني إرنو مثلاً أعلنت العديد من دور النشر عن توفر أعمال إرنو، والعمل على ترجمة وإصدار أعمالها الباقية قريبًا جدًا. فيما تبقى أولغا، الأكثر مهارة وتفردًا من هندكه وإرنو، شبه مجهولة في العالم العربي، رغم أن روايتها “كتب يعقوب” رائعة أدبية، وقراءتها متعة فكرية، ويمكن أن تقدم فوق ذلك الكثير من الدروس للأدب العربي- خاصة مع صعود الرواية التاريخية.

خلال القرن الثامن عشر، ظهرت حركة دينية غير عادية في المناطق الحدودية بين أوكرانيا وبولندا الحالية. كانت هرطقة يهودية اخترعها رجل يُدعى جاكوب فرانك – “الشخصية الأكثر شناعة وغرابة في تاريخ المسيحية اليهودية بالكامل”. ادعى فرانك وفقًا للمؤرخين أن آخر الزمان قد حان، وأن الأخلاق التقليدية يجب أن تنقلب رأسًا على عقب. تفاخر بتدنيس التوراة بردفيه العاريين، وشجع أتباعه على كسر جميع أنواع المحرمات الجنسية والغذائية. يصف مقال توكارتشوك عام 2014 “كيف كتبت كتب يعقوب” الرواية بأنها “قصة مجموعة كبيرة من يهود القرن الثامن عشر من بودوليا واتباعهم لجاكوب فرانك، التاجر الذي اعتنق الإسلام في وقت ما ثم أمر المجموعة بالتحول إلى الكاثوليكية”. سجنت الكنيسة الكاثوليكية فرانك بتهمة الهرطقة في ’جاسنا جورا لمدة 13 عامًا. وعندما غزت روسيا بولندا، فر إلى ,أوفنباخ، “حيث أسس محكمة ضخمة كانت بمثابة مركز ديني”. بجله العديد من تلاميذه كنبي وكتبوا رؤاه وأقواله في كتاب بعنوان “كلام الرب”. رأت ’توكارتشوك في هذه الأحداث “نوعًا من الكوميديا الكئيبة ولكن العبثية عن غير قصد” يقودها فرانك المحتال، في حين كان أتباعه “يخاطرون بهويتهم ويعرضون أنفسهم لخطر روحي وسياسي” من خلال ما اعتقدوا أنه بدعة ضرورية؛ “فكرة لتغيير العالم”. كتبت توكارتشوك عن كلا المسارين التاريخيين: التسلسل الرسمي المنظم للأحداث، والقصة البديلة الغريبة التي تتميز بالترابط والغموض والعبثية.

تحافظ توكارتشوك على وتيرة روايتها عبر تقسيمات الرواية، وتركز على التطور النفسي لشخصياتها دون أن تفقد إحساسها بأنها تروي حكاية لا كتابًا واقعيًا، وحركة العمل بطيئة ولكن تقدمية دائمًا. مع ذلك ما زالت هذه الرواية طويلة ومعقدة وتتحدث عن حركة دينية غريبة من زمان ومكان غريب وتفاصيل غزيرة. يمكن للمرء أن يقول إنه مكتوب ضد عصرنا يتحدى فترات انتباهنا القصيرة، ودورة الأخبار العاجلة، وتبجيل كل ما هو عصري وسريع.

وعمل توكارتشوك أيضًا تحدٍ أدبي، فهي تجربة في القالب تجبرنا على تعلم كيفية القراءة بطرق جديدة. وهي رواية تاريخية تجريبية تقدم نوعًا خاصًا بها من دليل القراء للتاريخ. من خلال الكتابة من منظور النساء المستبعدات من الأرشيف التاريخي، تعلمنا ’توكارتشوك طريقة تأريخية جديدة لنرى: نتعلم أن نرى ما قد لا يكون واضحًا ولكنه موجود مع ذلك. بهذه الطريقة، تصبح رواية “كتب يعقوب” دليل القارئ للحياة.

إن “كتب يعقوب” مفاجأة بكتلتها الهائلة من التفاصيل ودقتها رغم ذلك، بحيث لا يسع قراءها إلا أن يتعجبوا من بناء الرواية. حتى قبل أن نلتقي بجاكوب فرانك، ترسم توكارتشوك محيطه بخطوط معبرة، كما أن أناقتها في استخدام التفاصيل من العنوان، إلى الصور المرفقة، إلى وصف المدن والعادات المختلفة (حتى الصفحات رقمت بالعكس في إشارة إلى التقاليد العبرية) تجعل الروايات الأخرى تُقرأ مثل نسخ ناقصة عن الحياة. وتغطي المؤلفة 3 أديان، و3 طوائف دينية مع شيعها، ومدن شرقية وغربية بوضوح تجعلنا نرفع القبة للبحث الصارم الذي أجرته أولغا.

عدا عن ذلك، تميل الروايات التاريخية عادة لتبني معتقدات الكاتب وتوجهاته الفكرية ومن ثم رواية الأحداث التاريخية من ذلك المنظور، كما نرى بوضوح في عمل أسامة عبد الرؤوف: أوراق شمعون المصري. لكن “كتب يعقوب” هو رواية وبيان عن كتابة الروايات التاريخية واسترجاع أو مراجعة الماضي في وقت واحد.

لا تخبرنا قصة أولغا عن شعوب غابرة يجب أن نحبها أو نكرهها بسبب معتقداتنا ومعتقداتهم، ولكنها تجعلنا نعيش في ذلك العصر بكل تقاطعاته. حتى أن توكارتشوك تكتب بصيغة المضارع، مما يجعل الماضي، بكل ما فيه من حيوات وأحاسيس وألغاز وأحلام، ينبض بالحياة بينما نقرأ. يتحدث نابوكوف عن هذا على أنه “معانقة التفاصيل، التفاصيل الإلهية” عندما يمتدح الروايات التي نعيشها على أنها واقعية أكثر من الحياة نفسها.

تدور الرواية حول يعقوب الذي تحمل اسمه في عنوانها، لكنها تدور أيضًا، وربما في المرتبة الأولى، حول الشخصية الغامضة، العالقة في الفراغ بين الحياة والموت، وما يُسحم لها أن تراه في هذه الحالة، ومن ثم تنقله لنا. تقدم توكارتشوك يعقوب على أنه لغز، يمكن رؤيته فقط من خلال عيون الآخرين- كما كل الأنبياء، لكنها تجلبنا إلى جسد وروح ’يانتي، وتبدأ الرواية وتنهيها معها.

بعد ابتلاع تميمة تبقيها بين الحياة والموت، تتعلم ’يانتي التحرك مثل الراوي العليم. تسمو من جسدها: “ثم فجأة، كما لو كان من تأثير غير متوقع، ترى ’يانتي كل شيء من الأعلى.” في كل مرة تذكر ’توكاتشوك ’يانتي تذكرنا بأنها ترى الأمور من أعلى ولا يغيب عنها شيء، ولا توجد تواريخ في الرواية، تمامًا مثل الإلياذة والأوديسة التي تعيد تقديم الأبطال من خلال الإشارة إلى أقدامهم السريعة وقلوب الأسود وخوذاتهم المتلألئة. يبدو الأمر كما لو أن ’توكاتشوك تعلن أن احتلال منظور خيالي أسطوري لا مركزي يمكن أن يكشف عن الترابط بين جميع الأشخاص والأماكن والأفعال والأزمنة والأشياء.

Translation is too long to be saved

في خطابها لتسلم نوبل، تصف توكارتشوك رؤيتها لمى تسميه: “الراوي اللطيف” الذي “يتمكن من استيعاب منظور كل الشخصيات” ويثبت أن كل شيء “مرتبط بشكل متبادل في كل واحد”. كما يرى الراوي الرقيق الأحداث “لا-مركزية” بعيدًا عن وجهات النظر التقليدية. أصبحت Yente الآلية التي أمكن عبرها تجميع الكون الواسع من التفاصيل والحياة بشكل محايد وملامسة نفسية الشخصيات في ذات الوقت. هذا الأمر ما نفقد في الروايات العربية للأسف، وخاصة تلك التي تروى بصيغة المتكلم فيقد المؤلف السيطرة على حياديته، ويصبح كأحد شخصيات الرواية، لا منفصلاً عنها، وجزءً من الرواية لا راويًا لها من فوق.

في كتاب الطريق من كتب يعقوب، يشرح الراوي كيف أنه إذا نظرت “من مسافة قريبة جدًا، كما ترى ’يانتي الأشياء الآن، يمكنك رؤية كل تلك الجسور والمفصلات والتروس والمسامير وجميع الأدوات الصغيرة التي تربط الأحداث المتميزة والمفردة والفريدة من نوعها. […] كل هذا مرئي بوضوح من حيث تكمن ’يانتي الآن؛ يمكن رؤية كل شيء يومض ويتحول بلا توقف- كم جميل وهو ينبض”.

عملت توكارتشوك على رواية “كتب يعقوب” لمدة ست سنوات، تتبعت خلالها رحلات بطلها اليهودي البولندي من القرن الثامن عشر الذي ادعى أنه المسيح المنتظر. أصبح الكتاب من أكثر الكتب مبيعًا في بولندا، وأطلقت عليه لجنة نوبل لقبها الرائع. بعد فوز الرواية بجائزة نايكي الأدبية في عام 2015، أشارت توكارتشوك في مقابلة تلفزيونية إلى أن بولندا لم تكن منفتحة تمامًا أو متسامحة في الماضي؛ ردًا على ذلك، أرسل القوميون لها تهديدات بالقتل، مما أجبر ناشرها على توظيف حراس شخصيين لها. لا يوجد تفاصيل حول هذا الموضوع، ولكن وفقًا لصحيفة الديلي تلغراف: “بعد تعرضها للهجوم اللفظي في متجر بالقرب من منزلها، تعلمت توكارتشوك الرماية”.

في مقالها “كيف ينقذ المترجمون العالم”، تكتب توكارتشوك أن المترجم يلعب دور هيرميس الذي ينقل النصوص بين اللغات ويوصل كلمات المؤلف إلى جماهير جديدة “عبر حدود الأمة واللغة والثقافة”. وفي انتظار “هيرميسنا” ما نزال نترقب نقل رسالة أولغا إلى العربية.


تقييمنا: كتاب رائع، لكنه صعب. لذلك إن أردت أن تتعرف على أولغا فابدأ بـ “قد محراثك على عظام الموتى“.

التصنيف: 5 من أصل 5.

كتبها: قسطنطين حرب

العمل في هذه المراجعة: Księgi Jakubowe, Olga Tokarczuk