بطلة وراوية قصة أولغا توكارتشوك التي ظهرت باللغة العربية مؤخرًا: “جر محراثك فوق عظام الموتى”، ترجمة إيهاب عبدالحميد (عن الإنكليزية)، هي امرأة عجوز تُبغض سلوكيات البشر الغير اكتراثية باسم جانينا. تعيش بمفردها في وادي Kłodzko في بولندا. مهندسة بناء جسور متقاعدة، تدرس اللغة الإنجليزية وتدير منازل العطلات مقابل القليل من المال فوق راتب التقاعد. تشمل مشاريعها الجانبية التعاون مع صديق على ترجمة أعمال الشاعر الإنجليزي بليك، وتجميع قاعدة بيانات ضخمة في علم التنجيم، وإعطاء كل معارفها ألقاب مضحكة، مثل: أخبار جيدة، الدائخ، بيغ فوت.. الخ. صوت البطلة مميز وأصيل. إنها شخصية معقدة ومتعاطفة وغير متوقعة. ملاحظاتها حول العالم ثاقبة، وتعليقاتها على السلوك البشري حادة.
جانينا نباتية، مع التزام ميليشياوي بهذا الخيار. تنادي الغزلان باسم “السيدات الشابات”، وعندما ترى الضحية الأولى في الرواية، وهو صياد يختنق بعظمة غزال قتله، تعبر برعب:
“لقد أوقع الغزال في فخ، وقتله، ثم ذبحه وشواه وأكل جسده. التهم مخلوق آخرًا في صمت الليل وسكونه. لم يعترض أحد، ولم تضربه أي صاعقة. ومع ذلك وقع العقاب على الشيطان …”
خلال الجزء الأكبر من العام الذي يلي تلك الحادثة، تبدأ الجثث في التراكم. يُعثر على رجل سقط رأسه في بئر. بقايا شخص آخر في حالة يرثى لها بعد تعرضه للعوامل الجوية القاسية لأسابيع في منجم طيني قديم. وثالث تتغذى عليه خنافس الخشب؛ ويحترق آخر حتى الموت. بعد أن رأت جانينا آثار الغزلان على الثلج حول مسرح إحدى الجرائم، ولمحت اثنين من الثعالب من سيارتها حول موقع آخر، تحاول جانينا بشكل محموم إثبات قضية أن الحيوانات هي المسؤولة عن القتل، للانتقام من البشر الذين يفترسونها ويستغلونها. من هنا، يشير عنوان “الموتى” في الرواية إلى الحيوانات، وليس البشر.

يبرز أمر رئيسي في رواية أولغا توكارتشوك؛ أن الكتاب، الذي نُشر لأول مرة باللغة البولندية عام 2009، لا يبدو عتيقًا على الإطلاق، بل يتناسب في الواقع مع الاهتمامات الأدبية المعاصرة حول الطبيعة وتأثير البشر عليها، وقسوة صيد الحيوانات وقتلها. عنوان الرواية ذاته إشارة إلى قصيدة كتبها ويليام بليك، والتي تقترح أنه يجب استخدام جثث الحيوانات والبشر لتخصيب الأرض. هذه استعارة قوية لطبيعة الحياة الدورية والترابط بين جميع الكائنات الحية.
على الرغم من أن الكتاب يعمل بشكل مثالي كجريمة نوير من حيث التشويق المتصاعد حتى لحظة اكتشاف حل اللغز، الذي من المتوقع أن يثير إعجاب كبار معجبي أجاثا كريستي- فإن انشغال الكتاب الرئيسي هو الأسئلة غير القابلة للإجابة عن الإرادة الحرة مقابل الحتمية، مع القلق الوجودي. من هنا، فالرواية أشبه بالجريمة والعقاب لدوستويفسكي منها لروايات كريستي. تتسأل من يحدد من له الحق في القتل؟ ماذا يعني أن تكون إنسانًا، وماذا يعني أن تكون حيوانًا، وما الفروق الموضوعية التي تمكن من التمييز بينهما؟ لماذا قتل الغزال مجرد رياضة وقتل بشري جريمة؟ وإذا تم الارتقاء بحقوق الحيوان إلى مستوى حقوق الإنسان، فهل ستخضع الحيوانات بعد ذلك للقانون الجنائي والقانون الإنساني – إذا كان من الممكن القول بأن حيوانًا قد قُتل، فهل يمكن أن يُتهم بالقتل أيضًا؟ علاوة على ذلك، ما هدفنا نحن البشر؟ تفتح جانينا درج مطبخ وتنظر إلى الملاعق وتفكر في لحظة وجودية نقية: “أود حقًا أن أكون واحدة من هذه المعدات. لا يمكنني أن أكون شخصًا آخر سوى نفسي. كم هذا فظيع”.
تسرد المؤلفة قليلًا عن الموضوع الرئيسي وتتحدث بإسهاب عن النجوم والطالع، مما قد يُشعر القارئ بالملل في هذا الجزء، لكن أولغا بارعة في حبكه جيدًا داخل القصة، ولحظة تأمل في هذا الكون الكبير الذي نقف وحيدين وسطه، ومع ذلك نتصرف بقسوة مع رفقائنا من الكائنات الحية عليه. هنالك شيء جذاب ومغري في الاعتقاد بأننا جزء من شيء أكبر، أننا مهمون جدًا في هذا الكون الشاسع لدرجة أن حركة النجوم العملاقة، عبر ملايين السنين الضوئية، يؤثر على حيواتنا اليومية المتواضعة. مع ذلك، عندما يتعلق الأمر بالنظام البيئي الأقرب إلينا نتعامل بقلة اكتراث ولا نهتم بمقدار تأثيره علينا وعلى حيواتنا اليومية.
هذه الرواية فريدة بموضوعها. قلة هي الأعمال التي تحدثت عن هذه القضية بذات الجدية- الجدية الأدبية والموضوعية التي لم تخطف الرواية بعيدًا عن كونها مشوقة، وطريفة في عدة مواضع، وممتعة للقراءة.
تقييمنا: ننصح بها
الكتاب في هذه المراجعة: Prowadź swój pług przez kości umarłych, Olga Tokarczuk.
نُشر بالعربية عن دار التنوير بترجمة إيهاب عبدالحميد عن الإنجليزية
