هذه السلسلة تجميع وإعادة صياغة لعدد من المنشورات التي كتبتها على فيسبوك حول موضوع الصراع بين القديم والحديث في الشعر العربي. وآخر هذه المنشورات هو الذي أبدأ المقالة به، وهو رد على مدونة مرئية عنوانها الأمالي لشاب موريتاني (نسميه الراوي فيما يلي). هذا الشاب يتناول مواضيع تراثية من الشعر بأسلوب سردي ممتع ونطق عربي سليم. لكنه بين الفينة والفينة يتحدث عن سوء تعليم اللغة العربية، وهو وضع باتت تشترك به كل الدول العربية، وليس فقط موريتانيا التي يخصها الراوي أحياناً بالذكر. وحديث معاناة اللغة العربية لا بد أن يجلب معه، بالنسبة لمدونة مهتمة بالشعر القديم، الحديث عن المقارنة بين الشعر القديم والشعر الحديث. وبالطبع، وباعتبار أن تعليم العربية بشكل عام سيء في رأي الراوي، فإنه يعزو أحد أسباب السوء إلى التحول نحو الشعر النثري الذي لا يجد فيه الراوي لا طعما ولا رائحة، أي خال تماما من أية جمالية حسب تعريفه للجمال الشعري. ولا نعجب فالراوي متمسك بأطروحة الهجوم الثقافي الغربي. وهو لا يلوم الغرب على هذا الهجوم وإنما يلوم العرب على ضعف تمسكهم بثقافتهم وأصالتهم. إذن الراوي يتطرق للسلسلة المعتادة: الهجوم الثقافي الغربي– الانبطاح العربي للثقافة الغربية والانبهار بها – ضعف تعليم العربية – ضعف العربية في وسائل الإعلام مثل الأخبار والمسلسلات – الشعر القديم وقوته وجماله والشعر الحديث وضعفه وقبحه وتأثره بالغرب. وأينما بدأ الإنسان على هذه السلسلة، فإنه لا محالة سيمر على بقية المواضيع نظرا لترابطها في الوعي الثقافي العربي. لكني لن أتحدث هنا إلا عن الشعر. سأبدأ بتلخيص مقولات الراوي صاحب الأمالي، ثم سأمر عليها بالشرح والنقد الواحدة تلو الأخرى.
أطروحات صاحب مدونة الأمالي
هذا الشاب الواثق من نفسه (صاحب مدونة أمالي المرئية)، والمتحدث بعربية ممتازة، يعتقد أن الشعر كلمة تدل على شيء واحد فقط وهو شعر البحور. من الواضح أنه لا يحب الشعر الحداثي المسمى بالحر أو بشعر النثر. ويكّن احترامًا لشعر التفعيلة، لكن ليس بنفس القدر الذي يكنه لشعر البحور. ويعتقد أن الصراع ليس بين قديم وجديد وإنما بين الشعر الجيد والشعر الرديء (موضوع الجودة والرداءة). ونفهم من هذا بأن الشعر الحر شعر رديء، إذ لا يفهمه حتى أصحابه، حسب الراوي. ويشرح بأن الشعر عبارة عن عملية لغوية تخضع لقواعد، وأن جمالها ينبع من التزام الشاعر بالقواعد (موضوع ارتباط الجمال بالقواعد). ويعتقد أيضًا بان الشعر بالضرورة عمل مقارَن. فالشعراء في حلبة، حسب تعبير المعري الذي اقتبسه الراوي، يتسابقون فمنهم في المقدمة والآخرون وراءهم بدرجات (موضوع المنافسة والتقييم).
بالطبع هذه المقولات ليست جديدة أبداً، بل معادة ومكررة. يقولون: هذا ليس شعراً، هذا كلام عادي، إنه صعب الفهم، ليس له قواعد، الشعر وظيفته أن يُفهم، الجمال ينبع من القواعد، السهل الممتنع، الشعر القديم مفهوم بالسليقة (ويعطينا الراوي أسهل بيت شعر في الشعر القديم مثالاً) بينما الشعر الحديث يحتاج الى مترجم، وهو غامض بالطبيعة لأنه ينبع من غموض قريحة الشاعر نفسه، الذي يعتقد صديقنا أنه، أي الشاعر، لا يفهم ما يقول. ولو كان قائل الشعر الحر، حسب الراوي، يستطيع القول على البحور لما لجأ إلى الشعر الحر. أي أن الشعر الحديث هو مجرد فشل مهني (موضوع الشعر كصنعة)، أو نوع من الفساد أو السقوط الذي يزداد كلما توانينا عن مراقبته وردعه. الحديث والحداثة لا يعنيان الجيد. إنها موضة أساسها اتباع الغرب وفقدان الأصالة (لم يقل ذلك، لكني متأكد أن الفكرة في ذهنه).
التغيير هو سنة الحياة وليس الأصالة
هذا الشاب الأسمر الوسيم، بلباسه الموريتاني واعتداده بعروبته من ناحية النسب واللغة، لا يشبهني. لا يشبه الخليجي ولا يشبه السوداني ولا يشبه العراقي ولا اللبناني. فهل نحن عرق واحد أو أصل واحد؟ ولماذا يعتبر أن اللغة ملك له يوزع على هذا صك الأصالة والجودة وعلى ذلك صك الركاكة وعدم الأصالة. فكرتي ليست عنصرية، وإنما هي تنبيه إلى أن العربية لم تصله إلا بالاتساع والاستعارة والتزاوج والتأقلم مع بيئات جديدة، وربما الفرض. إذن كما تأقلم أجداده مع جديدهم فأنتجوا عربًا جددًا، فلماذا يرفض الراوي التأقلم مع الجديد في حياتنا ولا يريد حتى أن يقبل بتغيير معنى كلمة واحدة هي الشعر. إن الاصالة وهم، والتغيير هو الحقيقة الواقعية.
الصراع العشائري على التسمية
لا أعتقد أن أنصار الجديد وأنصار القديم يتصارعون على معنى النصوص وإنما على أسماء النصوص (أسماء النوع). هذا شعر وهذا ليس شعرًا. ونحن الوحيدون الذين لهم الحق بتحديد دلالة الكلمة وأنتم لا حق لكم. نحن الأحق لأننا نمثل الأصالة، وأنتم الجديد الخليط غير الأصيل وغير الفصيح وغير “الشعري” (ولا أقول شاعري). القضية إذن عشائرية. نحن عشيرة الشعر وأنتم لا تنتمون لها لأنكم لا تحملون الدم القديم وقواعد الانتماء. وأصحاب قصيدة النثر ليسوا بأفضل حالاً، فلسان حالهم يقول لا بل نحن الاصلاء وسنغير قواعد الانتماء وسنأخذ الاسم وننسب تاريخه الطويل لنا بعد تنقيته من الشوائب. ولذلك نرى ظهور مختارات من الشعر العربي القديم كالتي أصدرها ادونيس، والتي تمثل باعتقاده الفكرة الجديد للشعر لكن في قديم الزمان (أي إرهاصات قديمة للشعر بمعناه الحديث). يحدث هذا دائمًا في حالات الانشقاق، سواءً عن الحزب أو عن العشيرة. لا محبو القديم عندهم التسامح واتساع الذائقة الكافي لقبول الجديد. ولا المحدَثون عندهم الثقة الكافية بالنفس للخروج من عباءة العشيرة والانتماء، فهم يريدون التجديد لكن مع الاحتفاظ بالاسم القديم مع عدم الرضا عن تراث ذلك القديم. لكن هل إذا سمينا الشعر الجديد إحساسًا (أو سين أو عين) والشعر القديم شعرًا، فهل سنحل المشكلة؟ لا أعتقد. وذلك لان المعركة ليست فقط على التسميات بل على الوظيفة الاجتماعية لتلك الممارسة اللغوية.
الشعر الذي ليس “poetry” – الفرق بين الشاعرية والإحساس
يعتقد الناس أن الشعر هو تعبير موسيقي لغوي عن مشاعر. لكن هذا بحد ذاته تجديد. إنه التعريف الغربي للشعر وليس التعريف العربي. إن ترجمة مفردة poetry أو poesie بمفردة الشعر هي ترجمة خاطئة. الشعر الغربي هو كلام منظوم يعبر عن مشاعر. في المدارس الإعدادية والثانوية في أمريكا يشجعون الطلاب على كتابة الشعر. بالطبع سيكون من النوع الحر، إلا إذا كان الطالب من المتمكنين من الوزن. وتكثر الكتب في الأسواق الأمريكية التي تعلم الناس كتابة الشعر. فالفرضية هنا هي أن أي إنسان قادر على كتابة الشعر. أقتني كتابين من هذا النمط. وأحدهما يبدأ بتعريف الشعر كالتالي: ” تقول الشاعرة الأمريكية إيميلي ديكنسون: إذا قرات كتاباً جعل جسدي كله بارداً لا تدفئه أي نار مهما كانت، فإني أعرف أني أقرأ شعراً.” نلاحظ الارتباط الوثيق في هذا التعريف بين الشعر من جهة وبين الإحساس، وبالتحديد الإحساس الفردي، من جهة أخرى. ويزعم الكتاب نفسه بأن أصل الكلمة إغريقي وتعني الصنعة. بالطبع هذا التعريف القديم هو نفسه التعريف العربي القديم للشعر على أنه صنعة الكلام الموزون.
لا توجد كتب بالعربية تعلمك كيف تكتب الشعر لأن الفرضية الاساسية هي أن الشعر يكتبه اختصاصيون موهوبون نسميهم الشعراء (الشعر كصنعة). وأصل الكلمة في المعاجم هو المعرفة. شعر يشعر أي عرف وعلم. والشاعر بالتالي هو الذي يملك معرفة لا يملكها الآخرون. والتبرير القديم لهذه المعرفة هو أن الشاعر له “صاحب” من الجن يلهمه الكلام الموزون. فالشعر هو ما يحتوي على الشعرية او الشاعرية. يقولون شعر، مشاعر، شعور، استشعار، قرون استشعار. قديما كانوا يعتقدون أن للشاعر قرين من الجن يلقنه الشعر. ولذلك فان الجذر يدل على الكلام المنظوم كما يدل على نوع من معرفة شيء مخفي، شيء ما ورائي. يجب على الشاعر أن يدخل الى هذا العالم الماورائي ليحصل على الشاعرية. لكن يندر في الشعر القديم أن نرى احاسيس عميقة. إنه الكلام المنظوم، مع بعض الغموض اللغوي في المفردات وكثير من التشبيهات. إذن الشعر القديم لا يسعى الى الاحاسيس العميقة وإنما إلى فضاء لغوي معين (الشاعرية) مقيد بكثير من القيود لا يستطيع ان يحترمها ويتقيد بها إلا من له قناة مع الجن والماورائيات. كما يخترع المؤمن الفضاء المقدس (مثل سجادة الصلاة والتكبير واوقات محددة ووجهة محددة) وقيود الشعائر (نفس الجذر شعر) ليتواصل مع الاله، فان الشاعر يخترع فضاء الشاعرية ويحيطه بأسوار من الوزن وصعوبة المفردات. إننا نعتقد أن المعنى مملوك للإله، يجب علينا أن ندخل في فضائه حتى نراه. ولذلك فإننا نبحث عن “مختصين”، الشاعر مختص (موضوع الشعر كصنعة) والشيخ مختص والمثقف مختص والعالم مختص والفيلسوف مختص والفنان مختص. يملكون القنوات إلى الما-وراء.
لكني أعتقد فعلاً أنه لا يوجد فضاء شاعري ولا شاعرية ولا جني الشعر ولا ماورائيات. أعتقد أن الشعر هو أن نرى المعنى الموجود في كل شيء نفعله. كل شيء يفعله الانسان هو لغة يمكن للناس الآخرين أن يقرؤوها. وأعتقد أن الموهبة تكمن في رؤية طبقات وطبقات وطبقات من المعاني. هذا ما أسميه الإحساس. كل شيء أمامنا. المعنى كله موجود امامنا. الشعر موجود أمامنا، والرياضيات والعلوم والفلسفة والفن. إنها موجودة في كل شيء عادي وحياتي ومعتاد. وهو معنى معقد مهما بدا بسيطًا. إنه مكون من طبقات لا تنتهي من المعاني المتراكبة. هذا هو أساس الإحساس، أن ترى الطبقات وأن تعبر عنها.
إن الشعر العربي القديم (المكتوب والمنشور بالإشهار) لا علاقة له بالمشاعر (خاصة الفردانية، وأعني بها الأحاسيس لكني ألعب على وحدة الجذر بين الكلمتين شعر ومشاعر). إن الإحساس الوحيد الفرداني الذي كان مسموحا به في الشعر القديم هو الحب. وحتى ذلك الحب كان محصورًا بأنماط شعورية محددة جدًا ومقبولة اجتماعيًا (الوجد، العذرية، التشبيب، اللقاء المسروق، العوازل، الرفض، الهجران، وصف جسد المرأة، لوعة العاشق الرجل الذي فشل حبه لأسباب اجتماعية) ومعظم الصور والتشبيهات كانت معادة ومكررة ونمطية. المشاعر (الأحاسيس) الاخرى المسموح بها في الشعر القديم هي مشاعر جمعية (مثل العصبية، الفخر القبلي، الهجاء القبلي، الغضب في المعركة، والرثاء والذي هو نوع من الفخر). إن المشاعر الجمعية التي يعبر عنها هذا الشعر مضبوطة وملتزمة بانضباطها. البحر الشعري هو التعبير الفني عن هذا الانضباط. الشعر هو فن (بمعنى صنعة) القول المختصر المنضبط والملجوم شعوريا بشكل يخدم مصالح القبيلة.
هل كان هناك شعر عربي (قديم أو بحوري) مشغول أكثر بالمشاعر (الأحاسيس) الفردية. نعم لكنه غير مكتوب وغير مذاع وبالتالي غير معروف. وكما بينت ليلى أبي اللغد، في كتابها الانثروبولوجي الرائد والرائع، “مشاعر محجبة: الشعر والشرف في مجتمع بدوي” (موجود بترجمة عربية)، أن المجتمع البدوي الذي درسته يذخر بالشعر الحياتي اليومي الذي يعبر عن أعمق المشاعر (الأحاسيس) وحتى الممنوعة والمصادرة منها. لا بل ركزت الدراسة على شعر النساء عند قبائل أولاد علي في صحراء مصر الشرقية. لكنه يبقى شعرًا منضبطا ضمن قوالب العرف الاجتماعي وبالتالي ضمن قواعد الوزن. إنه اداة لغوية بارعة للمفاوضة على المشاعر (الأحاسيس) والدور الاجتماعي. ويمكن ان يكون شعرًا فردانيا متمردًا إذا كان مرتجلاً وآنيًا. وهذه مهارة فائقة يمكن للعرب أن يتميزوا بها عن كثير من الشعوب. إحدى طالباتي، وكانت من الكويت، أطلعتني على بعض رسائل أمها إليها على التليفون، والتي كانت كلها نظمًا مليئا بالمشاعر الجياشة. وهنا النقطة الاساسية وهي أن شعر المشاعر (الأحاسيس) متروك للفضاء الخاص الحميمي جدًا.

الوظيفة الاجتماعية للشعر العربي – بين الاجتماعي والفرداني
الشعر العربي، بنسخته القديمة المكتوبة، هو كلام منظوم ذو وظيفة اجتماعية، إنه شعر مناسبة. وحسب ما أوضحته أبو اللغد فإنه أيضاً شعر موجه للفضاء العام. اذن يمكننا ان نميز بين شعر عربي بحوري منشور وموجه للفضاء العام، وشعر عربي بحوري غير منشور وموجه للفضاء الخاص الحميمي. الأول مهم للجماعة وله وظائف (يمكن أن نسميها سياسية) وهو منضبط تمامًا (من ناحية الوزن والموضوع)، والآخر فرداني له وظائف مختلفة ضمن الجماعة الأصغر الحميمية وهو غير منضبط موضوعيًا، لكنه منضبط لغويًا مما يشي بنوع من الانضباط الشعوري. وهو أيضًا شعر غير مذاع (قد تنتشر بعض القصائد من هذا النوع بين الناس، لكنها ليست قصائد مغرقة في الفردانية بل هي ايضا تعبر عن المسموح من ناحية الموضوع والمشاعر). وهذا الانضباط الشعوري مفهوم لأن المجتمعات العربية مجتمعات منضبطة شعوريًا (سنعود الى هذا).
إذن الشعر القديم الذي نقرؤه في الدواوين (الشعر القديم المكتوب) هو شعر اجتماعي سياسي (الشأن العام للجماعة باعتباره سياسة). إنه مرتبط بالجماعة ارتباطًا وثيقًا. إنه مهارة لغوية أو تحدٍ لغوي ذو وظيفة اجتماعية (جمعية وليست فردية). إن الشعر القديم هو شعر مناسبة: المعركة، الصيد، المطية، الرحلة، الهجاء، المديح، الفخر، الرثاء، الجنس، الخمر، الحكمة. إنه في معظمه مكتوب ليكون محفوظًا ومتناقلاً. إنه لوحات فنية لغوية لتحقيق غاية مثل التقرب من حاكم أو دعوة الحاكم لدعم القبيلة او التنافس مع شاعر قبيلة أخرى أو التفاوض بين القبائل أو التحفيز على معركة، أو اختلاق معركة لغوية تعفي من الحاجة الى معركة جسدية. وقد اوضح تشارلز كيتون Charles Caton في دراسته الأنثروبولوجية الرائعة، “ادعو قمم اليمن: الشعر والممارسة الثقافية في قبيلة يمنية شمالية”، Peaks of Yemen I Summon: Poetry as Cultural Practice in a North Yemeni Tribe، كيف يسمح الانضباط الموسيقي واللغوي والموضوعي بالتأثير الاجتماعي الهائل في مناسبات هامة مثل الحرب القبلية، المصالحة القبلية، والزواج. إنه فن السياسة في كلمات بليغة.
هل الشعر البحوري الحديث مختلف في وظيفته وانضباطه عن الشعر القديم؟ جوابي هو لا وبالتأكيد. لا يزال الشعر البحوري اليوم شعر مناسبة، شعر رسمي للإشهار، شعر منضبط لغوياً وموسيقيًا وموضوعيًا وشعوريًا (بسبب وظيفته العامة والاجتماعية). لا يزال نظم قصيدة للترحيب بزائر شائعًا جدًا. لا يزال شعر الفخر، بعد تحوله الى الفخر بالقومية، شعرًا يهيج الجموع. لا يزال الرثاء والحب المنضبط (وإلا فلن يتم إشهاره) والهجاء من أهم مواضيع الشعر البحوري. وحتى الشعر الحر وشعر التفعيلة، فإنهما يشتركان مع الشعر البحوري في الهوس السياسي. هذا الهوس هو متابعة للوظيفة الاجتماعية القديمة للشعر البحوري القديم. هناك دواوين كاملة مخصصة للشعر السياسي. كل المشاعر تمر عبر السياسي وتقال في ساحة السياسي. لا شيء آخر موجود في شعر محمود درويش وغيره من المحدثين (أمل دنقل، بدر شاكر السياب، أحمد مطر) غير الشأن العام السياسي.
بالطبع للشعر مكانة خاصة في اللغة العربية وفي المجتمعات العربية. هناك حديث يقول بأن ما لا تفهمونه من القرآن فابحثوا عنه في الشعر. وطبعاً المقولة الأخرى هي أن الشعر هو ديوان العرب (أي أنه يسجل تواريخهم وأسماءهم وأحوالهم). ولا تزال المجموعة الشعرية تسمى الديوان (أي السجل). ولا يزال للشعر وظيفة اجتماعية، فعندما خرجت المظاهرات مثلاً ضد الاسد لجأ الناس إلى الشعر الشعبي. وعندما نريد إعلاء مكانة إنسان (مثل القائد الملهم) فإننا نلجأ إلى الشعر. وعندما نرثي أو نتغزل فإننا نلجأ إلى الشعر. بالطبع الأغاني كلها شعر (المفروض أنها شعر). إننا مجتمع لا يزال يحتفظ بوظيفة اجتماعية للشعر بينما فقد الشعر هذه الوظيفة في المجتمعات الغربية وأصبح “ديواناً” للفرد يسجل فيه خصوصياته وتجربته الفردية ومشاعره التي قد لا يشاركه بها كثيرون. بالمقابل، مثل هذا الشعر في المجتمعات العربية لا يزال ينعت بالأنانية أو النرجسية أو الانغلاق على الذات، لأن للشعر وظيفة اجتماعية وليست فقط للتأوه والتألم و”النق” الفردي. إن وجود الشعر الحر يدل إلى أن هناك تيار في المجتمع يريد أن يكون الشعر تعبيرًا وأحاسيس وليس مجرد صنعة وكلام موزون ومقفى. مع دخول النزعة الفردانية الى المجتمعات العربية، أراد الشعر العربي أن يتحول الى أداة حرة للتعبير عن الشاعر كفرد. مما أدى إلى صراع بين التوجه الجديد الناشئ الفرداني والمنعتق من القواعد، وبين التوجه القديم الذي لا يهتم بالفردانية ويهتم كثيرا بقيوده التي تجعل منه اداة لغوية ذات وظيفة اجتماعية. الشعر الفرداني ليس له أية وظيفة اجتماعية. بالطبع المعركة محتدمة بين التعريفين، لكنها معركة صفرية لن يكون فيها إلا رابح واحد يحتكر التعريف والمصطلحات والتاريخ والممارسة. المعركة الصفرية هي كالتالي: لا شعر دون وزن وقافية، وإلا فإنه كلام عادي يومي وممتهن. أو لا شعر دون أحاسيس وإلا فإنه بهلوانيات لغوية لا غير.
المجتمعات حول العالم تتغير. وسيكون من المستحيل فرض قواعد اجتماعية ثابتة ومعممة. الاهتمام بالفرد (بدءاً من الاستهلاك ومروراً بالحرية ووصولاً إلى التحليل النفسي) سيبقى معنا. بالنسبة لي الصراع بين الشعر العمودي والشعر الحر هو صراع على الفرد والفردية والحرية. بالطبع تلتحق به قضايا مثل الهوية والدين والوظيفة الاجتماعية. إن تيارات مثل الاستهلاك، الديمقراطية، حقوق الإنسان، الليبرالية الاقتصادية، تفكك الأسرة الممتدة، عمل المرأة، الحرية الجنسية، العلاج النفسي، وسائل التواصل الاجتماعي، الرفاهية، سوق الأغاني، سوق الكماليات، الفن الموجه للعموم، حرية الرأي، حرية الاختلاف، الموضة أو الموضات … كلها تصب في الفردية. ولذلك فإنه سيكون من الصعب العودة إلى الأيديولوجيات التي تختزل الفرد في عضو من الجماعة وتخضعه لقواعد لا يمكن الخروج عنها. هناك أنانية هائلة ستجتاح العالم، وبالتحديد العربي والشرق أوسطي، ويجب أن نملك الأدوات للتعامل معها. العودة إلى “الأصول” لن يقود إلا إلى صراعات صفرية.
الانضباط في الشعر العربي البحوري
الشعر العربي البحوري مبني على قواعد وضوابط (الانضباط اللغوي)، وأسميها هنا عقبات، لأنها تفصل بين النثر والشعر. الشعر العربي مبني على مقطعين صوتيين: القصير مثل (تِ أي حرف وحركة) أو الطويل مثل (فا أي حرف وحرف صوتي طويل، او مثل مُسْ أي حرف وحركة وحرف). وتعبير هذا في التفعيلات يكون مثلاً “فَ-عو-لُن” أي “مقطع قصير، ثم طويل وطويل”. هذه هي العقبة الأولى في الشعر. ثم تأتي العقبة الثانية وهي تتابع المقاطع القصيرة والطويلة في الشطر الاول من بحر معين. فمثلا البحر الطويل هو “فعولن، مفاعيلن، فعولن، مفاعلن”. أي المقاطع حسب الترتيب:
قصير-طويل-طويل، قصير-طويل- طويل-طويل، قصير-طويل-طويل، قصير-طويل-قصير-طويل.
فاذا رمزنا للقصير بـ “ق” وللطويل ب “ط” لحصلنا على:
ق-ط-ط، ق-ط-ط-ط، ق-ط-ط، ق-ط-ق-ط
وهذا يشبه إيقاعاً على الطبل، مما يجعل غناء البحور سهلاً. العقبة الثالثة في الشعر العربي هي تكرار الشطر لنحصل على البيت والعقبة الرابعة هي حرف القافية في آخر الشطر الثاني. والعقبة الخامسة هي تكرار البيت مع القافية ضمن القصيدة.
ولذلك فإن الشعر العربي التقليدي صعب ومحدود ويخضع فيه المعنى للشكل.
ويعتقد الناطقون بالعربية أن البحور الستة العشر المعروفة هي الموسيقا الوحيدة الممكنة (وهذه نوع من الانضباط). لكن هذا ليس صحيحًا، إذ يمكن أن نقترح التطويرات التالية: بحور جديدة أو مجتزأة (وهذه معروفة)؛ بعض الحرية في تتابع المقاطع والتي يعتبرها البعض أخطاءً؛ تغيير القافية ضمن القصيدة؛ شعر التفعيلة، أو الاقتصار على تفعيلة واحدة؛ الشعر الحر؛ بحور الشعر الشعبي والعامي (وهي تختلف من منطقة إلى أخرى). كل هذه المقترحات تفرق بين المقطع القصير والطويل، فماذا لو لم نفرق واقتصرنا فقط على عدّ المقاطع. كأن نقول ان البيت عشرة مقاطع، لا تفعيلة ولا شطرين ولا قافية ولا بحور؟
أحب قراءة الشعر المسمى بالجاهلي. ليس لأني أحب البحور، أو لأني أحب الشعر العمودي، وليس لأني أحب الإبل والصحراء والهجاء والقبائل والفخر. لا ابدًا، كلها مواضيع مكررة ومملة جدًا (وهذا ما أسميه الانضباط الموضوعي، أي محدودية المواضيع). ولكن لأني أحب التعرف على مئات الكلمات الجديدة التي لن أستطيع تذكرها. ليس هناك شيء عبقري في الشعر الجاهلي غير الكلمات. الصور نفسها، المواضيع نفسها بشكل ممل، لكن الكلمات تختلف. ذلك الشعر، كما يقول التعريف، هو صنعة لغوية بحتة وليست صنعة شعور (إحساس) أو تعبير أو مشاعر أو روحانية. الفقر في الصور والمواضيع وتكرارها المستمر أمر ملفت للانتباه. الاعجاب دائما مركز على المفردات المستخدمة. لا شيء جديد في تكرار صورة الناقة الضامرة التي يعبر عليها صاحبها مفازات كبيرة. إنه شعر مناسبة بامتياز وأحبه أن يبقى كذلك.

يكتبها: أحمد نظير الأتاسي
أستاذ التاريخ الإسلامي والشرق أوسطي في جامعة لويزيانا التقنية. فيسبوك