التصنيفات
Non-fiction أدب

فضائل الوباء

عن الكتاب الفريد لابن حجر حول فوائد الأوبئة

يعود أصل “بذل الماعون في فضائل الطاعون” إلى وباءين وقعا في زمن القاضي والشاعر والفقيه المصري ابن حجر العسقلاني في أعقاب موجات الموت الأسود عامي 1416 و1429.

يمثل العنوان الكامل للكتاب، بتقديم المعونة لتوضيح فضائل الطاعون، مشروع ابن حجر: بعد أن شفي من الطاعون وفقد ثلاثًا من بناته بسبب الموت الأسود، ويتأمل بعاطفة وحزن في أمثلة وقصص الطاعون من زمن النبي محمد إلى عصره. بدافع من الرغبة في إيجاد معنى للكوارث، يجمع ابن حجر وجهات نظر مختلفة حول ماهية الطاعون: العقوبات الإلهية، وفرص الاستشهاد، وفرص ممارسة رعاية الآخرين أو ببساطة “وخز الجن”.

على الرغم من أنه يحاول تقديم حلول قد لا تبدو منطقية أو مرضية للكثيرين، إلا أن إحدى المزايا الرئيسية لهذا النص تكمن في قدرته على الحفاظ على التناقضات بين مصادره. وصوته صوت جامع ومفسر لا مفكر دكتاتوري، رغم أن مكانته الاجتماعية والعلمية قد تسمح له بترك التواضع جانبًا. مع ذلك فإن نسبة 75 بالمئة من الكتاب هي اقتباسات ونقل لأقوال آخرين.

 يدعو ابن حجر إلى التفكير في معنى المرض، والسعي إلى إيجاد القيمة الروحية في الكوارث دون تسطيح الأحداث الرهيبة أو تمجيدها، والاعتراف بالآثار الاجتماعية والأخلاقية والقانونية للمرض دون تقديم حل بسيط.

الكتاب عبارة عن مزيج من التاريخ واللاهوت والأسطورة والعلوم العملية والطب. يمتزج الشعر والفكر الديني والمخلوقات الأسطورية والفكر الصادق في مجمل الصفحات، الأمر الذي قد يكون مربكًا للبعض، ولكنه في الحقيقة طريقة رائعة للنظر إلى الأشياء. هذا الكتاب مثير جدًا للاهتمام ومختلف تمامًا عن الكتب السائدة.

بما أن المؤلف كتب كتابه كناجٍ من الوباء، وكشخص فقد أحباءه بسببه، تتكون لدى المرء فكرة أن الكتاب أؤلف لإرضاء الفضول الفكري والروحي، وكيف ولماذا يسمح الرحمن بذلك، ومحاولة لمعرفة سبب حدوث أشياء سيئة، وما تعنيه الحياة لأولئك الذين تركوا وراءهم. من هنا يركّز ابن حجر في الباب الأول المعنون بـ “في مبدأ الطاعون” على الإجابة على سؤال: هل كان الطاعون رجزاً (عذاباً) على من مضى؟ ووصل إلى تأكيد ذلك، لكنه فصَّله بالإشارة في بعض فصول هذا الباب إلى أن هذا الرجز أو العذاب وقع على الكفرة، وأورد جملة من الأحاديث، منها حديث: “الطاعون رجز…”. أما في الباب الثاني “في التعريف بالطاعون”، فيتوقف ابن حجر مع معنى الطاعون واشتقاقه والفرق بينه وبين الوباء، واستعرض الأحاديث الواردة في أن الطاعون وخز من الجن، ومجموعة من التعريفات التي يحاول أصحابها توضيح العلاقة بين الطاعون والوباء، ثم أورد حديثَيْن، الأول: “على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال”، والثاني: “اللهم العن شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف، كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء”، ثم علّق ابن حجر قائلاً: “فلو كان الطاعون هو الوباء لتعارض الحديثان، لكن لا تعارض بينهما لأن الطاعون أخصّ من الوباء”.

 أما عن فضل الطاعون الذي عنون به كتابه فيفسره الباب الثالث “في بيان كون الطاعون شهادة للمسلمين ورحمة”، معتمداً على مجموعة من الأحاديث، مثل: “الطاعون شهادة لكل مسلم”؟ و “الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله”. ومن هنا يبدو جلياً أن من أبرز فضائل الطاعون في الإسلام أنه سبب في الابتعاد عن المعاصي، والخروج من دائرة الغفلة، والوعي بقصر الأمل، والاستعداد للرحيل إلى دار الخلود، وشهادة للمسلمين ورحمة، لذلك نجد ابن حجر يحدثنا في هذا الباب عما يُشتَرَطُ لتحصيل الشهادة بالطاعون، وعن معنى الشهيد وخصائص الشهادة، وأن شهيد الطاعون ملتحق بشهيد المعركة، ثم يقول إن أجر الشهيد إنما يكتب لمن لم يخرج من البلد الذي يقع به الطاعون، وأن يكون في حال إقامته قاصداً بذلك ثواب الله، راجياً صدق موعوده”.

عبر هذا التفسير يصل ابن حجر إلى باب “حكم الخروج من البلد الذي فيه الطاعون والدخول إليه”. فيُذكّر في البداية بالزجر عن الخروج من البلد الذي وقع فيه الطاعون فراراً منه، ثم يعرض حديث: “إذا سَمعتُم به بأرضٍ فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرضٍ وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه”، ولم يغفل ابن حجر قصة رجوع عمر من طريق الشام عندما بلغه أن الطاعون بها، ثم قام بتبيان الحكمة من النهي عن الخروج من البلد الذي وقع فيه الطاعون فراراً منه، ومن أبرز تلك الحِكم أن الفرار لا يُنجي صاحبه من الموت، ولتأكيد ذلك نقل ابن حجر عن المدائني أن مصر ضربها طاعون شديد، ففرّ عبد العزيز بن مروان، أمير مصر آنذاك، إلى قرية له، فلحقه الطاعون فمات بتلك القرية.

اقتباس من كتاب بذل الماعون في فضائل الطاعون لابن حجر العسقلاني

ويختم ابن حجر كتابه بباب “ما يُشرع فعله في الطاعون بعد وقوعه”، فتوقف مع عدة مسائل منها سؤال: هل يُشرع الدعاء برفع الطاعون أم لا؟ وتطرق إلى بعض الشبهات التي أثارها العلماء في هذا السياق، حيث كان بعضهم يتساءل: ما دام الطاعون رحمة فكيف يُطلب رفعه؟ ثم يتوقف ابن حجر مع الآداب المتعلقة بمن أصابه الطاعون أو غيره من الأمراض، فذكر أربعة آداب، هي: سؤال الله العافية والاستعاذة من السقم، والصبر على قضاء الله تعالى والرضا بما يقدره، والترغيب في حسن الظن بالله تعالى، والعيادة وفضلها، ثم قدم جملة من الأدلة القرآنية والحديثية تؤكد قيمة وضرورة هذه الآداب، وختم ابن حجر كتابه بخاتمة استعرض فيها بعض إحصائيات وأماكن وقتلى الطاعون في الإسلام، ثم جاء بفصل يتضمن بعض الأشعار التي يصف أصحابها حال الطاعون في تاريخ الإسلام.

عن الترجمة الإنكليزية

تُرجم الكتاب إلى الإنجليزية عام 2020 تحت عنوان: ” Merits of the Plague”، في الأيام الأولى لفيروس كوفيد-19. ومن مفارقات نشر الكتاب بلغة اجنبية أنه ظهر بهوامش واعتراضات أقل من النسخة العربية المدققة، ما جعل النص يبدو أسلس وأسهل للقراءة في الطبعة الأجنبية من لغته الأم! كما أخرج الكتاب بتصميم معاصر بعيد جدًا عن النمط الذي اعتدنا عليه مع كتب التراث العربي.

تطرح ترجمة هذا الكتاب وطريقة إخراجه الكثير من الأفكار والتأملات حول استعداد الغرب على نبش المعرفة حينما يحتاجها من أي مصدر كان، فيما لا يعرف العالم العربي عن العسقلاني سوى أنه مؤلف “فتح الباري في شرح صحيح البخاري”. لقد قمنا بتوظيف مفكرين وعلماء لخدمة أيدولوجيات محدودة نحن من قام بتشكيلها، وحددناهم بقوالب ضيقة نحن من قولبها، فيما يقوم الغرب بالاستفادة من جميع المصادر بغض النظر عن أيدولوجياته أو توجهاته.

في نفس السياق، أثناء كوفيد-19 أشاد العديد من المثقفين العرب بقدرة فوكو البحثية على نبش التراث الأوربي واستخلاص التجارب من مخطوطات لم يسمع بها أحد، فيما بقيت مؤلفات الطاعون العربية، مثل كتاب ابن حجر وغيره، شبه مجهولة حتى يترجمها الغرب ويحتفي بها.

يمكن الاطلاع على الكتاب وتحميله مجانًا من هنا

صدرت النسخة الإنكليزية من الكتاب عن دار بينغوين