تمتلأ الحسابات المهتمة بالكتب على انستغرام بصور كتب أدهم الشرقاوي (قس بن ساعدة)، ويلقى الكثير منها شعبية لا تُزاحم تحت عناوين جليلة تعلن بكل ثقة وعنجهية: “كتب غيرت حياتي”، “أفضل ثلاث روايات أبدًا”… على الجانب الآخر، يواجه الشرقاوي تجاهلاً تامًا في الوسط الثقافي والدوريات المرموقة، ومن النادر أن تجد مقالة لشخصية معتبرة عنه أو عن أي من كتبه، حيث يجد المثقفون أنه كاتب تجاري ولا يستحق أخذه على محمل الجد بتاتًا، أو تضييع الوقت على نقد أعماله- أو أنهم لا يودون التعارك مع قاعدته الشعبية الواسعة دون فائدة تذكر من ذلك.
لكن في ظل انتشار أعمال الشرقاوي، وهذه الثقة لدى البعض بأنها أعمال مرموقة لا تضاهى، داعٍ لإفراغ بعض الوقت لتوضيح مدى سوء كتاباته- وإن بدى ذلك من البديهيات لدى الكثيرين، وخاصة المطلعين والمتمرسين في القراءة.
ما سبب انتشار أعمال الشرقاوي؟
لا يختلف اثنان أن سبب انتشار أعمال أدهم الشرقاوي في المقام الأول هو كتاباته الرومنسية-الفانيلا-الشرعية. يدعي البعض أنه يستغل الدين لبناء شهرة لنفسه- لا أعلم مدى صحة ذلك أو نيته، لكن المؤكد أنه يملئ فراغًا لم يشغله أحدٌ قبله، وكان السباق لسوق يبحث عن قصص رومنسية تحفز خيال الشباب، لكن مع بقاءها ضمن ضوابط الشرع والعادات والتقاليد المحلية. مع ذلك، وكما سنرى تاليًا، فإن الفراغ الذي يملأه لا يبرر المستوى المتدني لأعماله.
ثانيًا أن أعماله “بسيطة” بأحسن تعبير وساذجة في الحقيقة، مما يجعلها سهلة التناول. لا يحتاج القارئ لأعمال الشرقاوي لاطلاع مسبق، أو تفكير متأنٍ. هي ليست كأعمال بورخيس، أو أولغا توكارتشوك أو خوليو كورتاثار، حيث يحتاج القارئ أن يصارع الرواية ويفك ألغازها ليلتقط أفكار المؤلف ومن ثم بناء آراءه الخاصة، بل تُقرأ أعمال الشرقاوي كوجبة سريعة للتسلية، لا يحتاج القارئ للتوقف عند أجزاءها ولا التفكير مطولاً ومُعمقًا فيها.
يقول بعض المثقفون أن أعمال الشرقاوي موجهة للمراهقين، فلا يجب تحميلها أكثر من وزنها، لكن حتى لو كتبت للمراهقين فذلك لا يبرر أن يكتبها كالمراهقين. وهذه هي الحقيقة؛ أسلوب الشرقاوي في الكتابة كمراهق مازال يتمرس في كتابة الغزل لحبيبته. رواياته خالية من بناء الشخصيات، والحبكة المتماسكة، بل لا تعدو كمحاولة طالب ابتدائي على اختلاق قصة لمادة التعبير بصيغة المخاطب التي لا يعرف غيرها. لا يمتلك أي معرفة بأصول كتابة الروايات أو الشعر أو المقالات، بل هو تائه بينها كلها- في كتاب “للرجال فقط”، مثلاً، ورغم هذا العنوان فإنه يناقض نفسه ولا يتوانى عن توجيه أوامر ذكورية مخاطبًا النساء في متن الكتاب. وفي أحاديث الصباح والمساء لا يستطيع إكمال جمله، ونجده يقطع الجمل بشكل مصطنع، تائه هل يكتب الشعر أم نصوصًا تعبيرية أم مقالات فلسفية.
ولا تدع الكلمة الأخيرة تخدعك، فمن الواضح أن الشرقاوي أبعد ما يكون عن الفلسفة، بل يجزم القارئ المطلع أن معرفة الشرقاوي عمومًا ضحلة ومخجلة. الدلائل التي يقدمها على وجود الله في “ليطمئن قلبي”، مثلاً، أدلة ركيكة تُحرج المؤمن بسذاجتها قبل المُشكك، وكأن الشرقاوي لم يقرأ سوى “حوار مع صديقي الملحد” لمصطفى محمود دون أن يطلع على أحدث النقاشات التي تجاوزته بسنين فيما هو غارق في أدلة العصور الوسطى، بشكلها الصبياني فوق ذلك. إن سبب رواج كتب أدهم الشرقاوي هو نفسه سبب رواج كتاب “وهم الإله” لدوكنز حيث يقدم الاثنان أدلة سطحية يرتاح لها كل طرف دون مجهود فكري يذكر فيما يسخر من الطرف الآخر على توجهاته أو يُقلل من عقلانية خياراته عبر جدالات تظهر سطحية الكاتب لا غير.
والشرقاوي ليس جاهلاً في الفلسفة والمنطق فقط، بل في علم النفس والدين والأدب، وحتى أنه غرّ في حكمة الحياة نفسها. رغم ذلك، لا يتوانى بكل عنجهية وثقة أن يوجه نصائح، بل حتى أوامر رسولية بفعل كذا وتجنب كذا. في “للرجال فقط” -مثلاً وليس حصرًا- يعطي قائمة واثقة عن الفروق بين الرجل والمرأة، يستهلها بأن المرأة تتحدث أكثر من الرجل، ولا يأتي بإحصائية أو دليل على أي من كلامه سوى رأيه الذي استنتج ذلك وقرره كحقيقة لا شك فيها، رغم أن العلم والإحصائيات ترى غير ذلك.
ثم يتابع أنه سيُبين خفايا وعلة هذه الفروق بعيدًا عن الدين ومن العلم، لكننا نُفاجأ أنه يشرح الفروق من قصة خلق آدم من تراب وحواء من ضلعه! وكل ذلك يتم بثقة غريبة في الطرح والاستنتاج لا يتجرأ عليها المتمكنون في العلم والفلسفة والدين. هنا أود الإشارة أن الشرقاوي يصبح خطيرًا، فرغم أن رواياته يمكن ألا تُأخذ على محمل الجد وفقط كتسلية غير مضرة، إلا أن أعمالاً مثل “للرجال فقط” تشكل خطرًا على تفكير القراء، وممارساتهم الحياتية إن تبنوها، بترويجها لأفكار هدامة ومغلوطة تحت غطاء الثقة والدين.
سبب آخر مهم، ومقلق، وراء انتشار أعمال الشرقاوي- أنها مطمئنة لقناعات المرء واعتقاداته المسبقة. فيما يحاول كبار الكتاب دائمًا إخراج القارئ من منطقة راحته وجعله يشك ويتساءل عما اعتقده أمورًا مسلمًا بها، يأتي الشرقاوي ليقول أن كل شيء على ما يرام ومثالي، لذلك نجد أن رواج كتاباته محصور بالفئة التي يربت عليها مُطمئنًا.
من المخجل بالنسبة للنشر العربي أن الشرقاوي يحظى بهذا الاهتمام… والقبول في المرتبة الأولى الذي شجعه على تأليف عدة كتب يكرر فيها نفسه، فيما يسرق الأضواء من كُتاب أقدر وأولى بالالتفات إليهم سواءٌ نشر لهم، أو لم يحظوا بهذه الفرصة النادرة لترى أعمالهم النور بالأساس.