لا يصادف المرء في كثير من الأحيان رواية مصممة لإثارة الإعجاب ولكنها في الوقت نفسه جوفاء إلى هذا الحد. تنجح “المئذنة البيضاء”، بطموحاتها العظيمة نحو المنزلة الأدبية الرفيعة، في إثبات أن التعقيد من دون وضوح لا يعدو عن لبس، وأن الرمزية من دون جوهر لا تعدو عن زخرف.
تدور أحداث الرواية حول شخصية تدعى مايك الشرقي، رجل أعمال نشأ من أصول متواضعة ليجمع الثروة عبر مشاريع مختلفة. ولكن على الرغم من كونه الشخصية المحورية، إلا أنك تنهي الرواية دون أن تستطيع تخيل البطل، أو أن تتذكره كشخص تعرفه، كما يحدث عندما ترتبط بشخصية متماسكة، لأن مايك غامض بشكل محبط، وتتغير دوافعه مثل رمال الصحراء– في لحظة ما يصبح انتهازياً، وفي اللحظة التالية مدفوعاً بدوافع تبدو وكأنها تنبع من العدم. وكأن المؤلف لا يستطيع أن يقرر ما إذا كان مايك إنساناً معقداً أم مجرد وسيلة لنقل أفكار مجردة.
ويمتد هذا الفشل في توصيف الشخصية إلى ما هو أبعد من مايك. فالنساء في الرواية ــرندة، وعايدة، وغيرهماــ موجودات في المقام الأول كأشياء يمكن لمايك التلاعب بها. وتفتقر النساء إلى الحياة الداخلية، ويخدمن إلى حد كبير كدعائم في دراما غير مقنعة عن السلطة. وحتى الشخصيات الذكورية لم تكن أفضل حالاً، إذ اختُزِلَت في رسومات تحمل عنوان “الأستاذ” أو “الشيخ”، وكأن المؤلف خشي أن يصرف إعطائها المادة المناسبة انتباهه عن عظاته الفلسفية.
إذا قارنا المئذنة البيضاء برواية السيدة دالواي لفرجينيا وولف، سنجد أن الأخيرة تحقق عمقًا ملحوظًا من خلال تقنية تدفق الوعي، مما يسمح للقراء بالوصول الحميمي إلى الحياة الداخلية للشخصيات. وعلى نحو مماثل، تكشف رواية “لا تدعني أرحل” لكازو إيشيجورو عن العمق العاطفي لشخصياتها تدريجيًا، من خلال الإيماءات الدقيقة والحوار الخجول. تخلق كلا الروايتان شخصيات تبدو حقيقية إلى حد كبير. وعلى النقيض من ذلك، تظل شخصية مايك التي يجسدها العيسى لغزًا طوال الوقتــ لا عن اختيار فني متعمد، وإنما لفشل المؤلف في تقديم حياته الداخلية بشكل متسق أو مقنع.
ويبدو أن البنية السردية المجزأة، التي تتنقل بين مواقع مثل بيروت ودمشق ودبي، محاولة لتقليد الأدب التجريبي. ولكن على النقيض من السرديات غير الخطية للكتاب المهرة الذين يدركون أن الارتباك يخدم غرضاً، فإن التسلسل الزمني الفوضوي لهذه الرواية لا يخدم سوى الغموض بدلاً من التوضيح. ويترك القارئ ليتجول في متاهة بلا خريطة، ويواجه نفس الطرق المسدودة مراراً وتكراراً. قارن هذا برواية مايكل أونداتجي “المريض الإنجليزي”، حيث يخدم نسج الماضي والحاضر الغرض المتعمد المتمثل في الكشف عن الشخصية والموضوع. إن انتقالات أونداتجي بين الخطوط الزمنية هادفة، وذات صدى عاطفي، وموجهة بوضوح. ويفهم القارئ دوماً لماذا ننتقل بين الفترات، وما هي الروابط المرسومة. على النقيض من ذلك، وعلى نحو مماثل، تستخدم رواية “الحبيبة” لتوني موريسون السرد غير الخطي لاستكشاف الصدمة والذاكرة ــ فالبنية نفسها تجسد التأثير المدمر للألم النفسي. وفي عمل العيسى، يبدو أن التفتت لا يخدم أي غرض سردي يتجاوز محاولة الظهور بمظهر أدبي مرموق.
وما يظل أكثر إزعاجاً للقارئ اليقظ هو ادعاء الرواية. فالإسهاب المفرط في الإشارات إلى غيفارا وفيروز والمتنبي وأفلاطون وأرسطو وتوماس جيفرسون لا يبدو وكأنه انخراط فكري أصيل. بل أقرب إلى محاولة يائسة لإثبات مصداقيته. ما يذكرنا بطالب جامعي متوتر يحاول إثارة إعجاب أستاذه من خلال ذكر كل الكتاب والفلاسفة الذين يعرف أسماءهم.
تشهد رواية المئذنة البيضاء على أن الخداع الأدبي لا يمكن أن يعوض عن الافتقار الأساسي إلى الحقيقة. فعندما لا يكون لدى الكاتب ما يقوله حقًا، لا يمكن لأي قدر من الزخرفة الأسلوبية أن يملأ الفراغ. لا تفشل الرواية لأنها معقدةــ بل لأن تعقيدها لا يخدم أي شيء جوهري. واللغة المستخدمة في العمل تقدم لنا مثالاً واضحاً على ما يمكن أن نطلق عليه “التظاهر الفكري”– حيث يستخدم الكاتب الكلمات لإثارة الإعجاب بدلاً من التواصل مع قارئه.
إن شغف المؤلف بتركيبات الجمل المعقدة والمفردات المعقدة بشكل مفرط لا يخدم في التوضيح بل في الغموض. فعندما يصف شيئاً بسيطاً مثل مبنى، لا يستطيع العيسى أن يقاوم تشبيهه بـ “سفينة معدنية تتأرجح”، ونقرأ في إحدى المقاطع هذه الجملة: ” قفزت عبلة من السيارة كخيول المتنبي اللواتي “ما لهنّ قوائم”، ثم حين وطئت الحجارة القديمة في ميدان “آغورا” تحولت واحدةً من نساء الأعشى ميمون الغرّاوات الفرعاوات اللواتي يمررن كالسحاب ويمشين الهوينى “لا ريثٌ ولا عجل””. كم هو منهك قراءة هذه الجملة؟ وهل يستطيع القارئ أن يخرج فعلياً بتخيل ما من وراءها؟ وكأن الوصف المباشر بطريقة ما دون مستوى طموحات يعرب العيسى الأدبية. هذا البحث المستمر عن الاستعارة مرهق، وخاصة عندما تفتقر الاستعارات ذاتها إلى التماسك أو العمق.
الأمر المحبط هو التناقض في نبرة الرواية. فالصوت السردي يتحول دون سابق إنذار أو هدف، فيتبنى أحياناً منظوراً كلي العلم، وفي أحيان أخرى يتعمق في أفكار الشخصيات، وفي بعض الأحيان يندفع إلى استطرادات فلسفية لا علاقة لها بالمشهد الذي بين أيدينا. إن هذا ليس التعديل المتحكم في النبرة الذي نجده في الكتاب المهرة، بل هو بالأحرى الصوت غير المؤكد لمؤلف لم يقرر بعد أي قصة يرغب في سردها أو أفضل طريقة لسردها.
يقوض الحوار أيضاً أي شعور بالأصالة. فلا تتحدث الشخصيات كما يتحدث البشر بل كأوعية لأفكار المؤلف. وسواء كانوا رجال أعمال أو أساتذة أو عمالاً فإنهم جميعاً يشتركون في نفس الأسلوب الفلسفي المتكلف في التعبير. وقد يكون المرء أشبه بقراءة نقاش مطول بين متحدثين غير متباينين بشكل جيد من أجل أفكار المؤلف غير المكتملة.
وعندما يتعامل العيسى مع المفاهيم المجردة ـ السلطة والاستغلال والهوية ـ فإنه يقع في فخ الفكرنة دون بصيرة. وتنخرط شخصياته في مناقشات حول الدين والفلسفة والسياسة تبدو عميقة فقط لأولئك الذين لم يتعاملوا بجدية قط مع هذه الموضوعات. والنتيجة هي نوع من الثرثرة شبه الفكرية التي تعطي انطباعاً بالعمق دون الوصول إليه. بالمقارنة مع رواية “مائة عام من العزلة” لغابرييل غارسيا ماركيز، تنشأ الرموز بشكل عضوي من السياق الثقافي والتاريخي لماكوندو، وتكتسب معنى أعمق مع تقدم السرد. والفراشات الصفراء التي تتبع موريسيو بابيلونيا، والدم الذي يسافر عبر المدينة إلى أورسولا بعد مقتل خوسيه أركاديو ــ تتردد أصداء هذه الرموز لأنها لا تنفصل عن القصة التي تُروى. أما رواية “المئذنة البيضاء” فتمنحنا رموزاً ــ وأبرزها المئذنة نفسها ــ تظل منفصلة عن الواقع العاطفي، فتبدو وكأنها هياكل اصطناعية مفروضة على السرد أكثر من كونها نتاجاً طبيعياً له.
إن هذا هو الخداع الأساسي في الرواية: فهي تقدم نفسها كعمل جاد فكرياً وأخلاقياً في حين تفتقر إلى الشجاعة اللازمة للانخراط بصدق في تعقيد التجربة الإنسانية. وبدلاً من ذلك، تحل الألعاب اللفظية محل البصيرة الحقيقية. لا تلقي “المئذنة البيضاء” الضوء على الحالة الإنسانية؛ بل توضح فقط مفردات المؤلف. في رواية فعّالة حقاً، تعمل اللغة كنافذة تطل على الشخصية والموضوع. أما هنا، فإنها تعمل كحاجز يخفي المؤلف خلفه فراغاً. ولا يُترَك القارئ مع رؤى ليتأملها، بل مع طعم التصنع ــ وجبة من المقبلات المرتبة بتكلف حول طبق رئيسي غائب.
ولعل الانتقاد الأكثر جوهرية الذي يمكن أن يوجه إلى رواية ما هو أنها تفشل في تبرير وجودها. فعندما نسأل ما الذي تساهم به رواية “المئذنة البيضاء” في فهمنا للعالم أو لأنفسنا، فإن الإجابة محيرة. إن الموضوعات الرئيسية ــ القوة، والاستغلال، والهوية، والروحانية ــ كلها مواضيع جديرة بتسليط الضوء عليها. ولكن يبدو أن العيسى راضٍ بمجرد تسمية هذه المفاهيم بدلاً من استكشافها بعمق أو أصالة. والرمز المتكرر للمئذنة البيضاء في حد ذاته يجسد هذه المشكلة. فنحن نسمع مراراً وتكراراً عن أهميتها، وفرادتها، وارتباطها بالنبوة، ولكن الرمز يظل أجوفاً ــ وعاء يتوقع من القراء أن يسكبوا فيه معناهم الخاص لأن المؤلف فشل في تقديم أي معنى.
وما يبرز بوضوح من هذه الرواية هو التناقض العميق بشأن موضوعها الخاص. ينخرط مايك الشرقي (غريب الحصو)، بطل الرواية، في الاستغلال والتلاعب طوال الوقت، ولكن السرد لا يتخذ موقفاً واضحاً أبداً من أفعاله. وهذا ليس تعقيداً أخلاقياً بل ارتباكاً أخلاقياً. إن التعقيد الأخلاقي الحقيقي ينشأ عندما يفكر الكاتب بعمق في الأسئلة الأخلاقية ويعرضها بكل صعوباتها. وهنا لا نجد سوى مظهر من مظاهر التعقيد الذي يخفي ما يبدو أنه إما اللامبالاة أو عدم اليقين.
ومعالجة الرواية لسياقها الجيوسياسي سطحية بنفس القدر. وعلى خلفية أحداث تاريخية مهمة، بما في ذلك الصراع العراقي، والثورة السورية، تفشل القصة في التعامل بشكل هادف مع العواقب الإنسانية لهذه الأحداث. تتحرك الشخصيات عبر هذا المشهد وكأن السياسة والتاريخ مجرد مشهد، وليس قوى تشكل حياة ومجتمعات. ويذكر تهجير الناس ولكن لا نُدعى للتعاطف معهم.
يبدو أن العيسى قد أخطأ في فهم الغموض على أنه عمق. يستخدم الكاتب الماهر الغموض عمدًا، ليعكس عدم اليقين الحقيقي في التجربة الإنسانية. في رواية “المئذنة البيضاء”، يخدم الغموض إخفاء غياب الفكر الواضح. ويُنهي القارئ الرواية بأسئلة لا لأن القصة تدفع إلى تأمل أعمق، ولكن لأن المؤلف نفسه يبدو مرتبكًا بشأن ما يرغب في قوله.
التقنيات التي يستخدمها الروائيون المتمرسون حقاً ـ السرد غير الخطي، والرمزية، والاستقصاء الفلسفي، وتطور الشخصية، والوتيرة، والتطور الفكري ـ تنجح لأنها تخدم الغرض الأساسي المتمثل في إلقاء الضوء على التجربة الإنسانية. أما في “المئذنة البيضاء”، فإن نفس هذه التقنيات تصبح تمارين تقنية فارغة، خالية من البصيرة الحقيقية أو العاطفة.
والدرس واضح: فالأدوات الأدبية ليست غايات في حد ذاتها بل هي وسيلة إلى حقائق أعمق. وعندما يفشل المؤلف في إدراك هذا المبدأ الأساسي، فإن أي قدر من البراعة التقنية لا يمكن أن يعوض عن الفراغ الناتج عن ذلك. لا تقف المئذنة البيضاء كنظير للأعمال العظيمة المذكورة أعلاه، بل كظلها – دليل على ما يحدث عندما يتم فصل التقنية عن المعنى، وتخدم التعقيدات نفسها فقط.
كتبها: