التصنيفات
روايات

فن الإرباك الفلسفي

عن روايات بابا سارتر، شتاء العائلة، والوليمة العارية لعلي بدر

عندما يسمي أحد الروائيين أعماله على اسم جان بول سارتر، قد تتوقع إما التبجيل أو السخرية. إلا أن رواية “بابا سارتر” لعلي بدر تنجح في تحقيق الأمرين، وفي ذات الوقت تفعل شيئاً أكثر إثارة للاهتمام من كليهما. هي دراسة ذكية لكيفية ترسيخ الأفكار الأجنبية وتحولها في تربة غريبة. يتصارع فريق من الشخصيات مع الوجودية لا باعتبارها تمريناً أكاديمياً، بل كقوة حيوية تعد بإضفاء معنى على عالمنا الفوضوي.

تدور أحداث الرواية في محلة الصدرية ببغداد، وتقدم لنا مجموعة من الشخصيات التي تبنت الوجودية بدقة المراهقين الذين يكتشفون “الأبواب”. وفي قلب الرواية نجد عبد الرحمن، الفيلسوف الذي لا تشبه علاقته بأفكار سارتر شيئاً أكثر من رجل يحاول تجميع أثاث إيكيا دون التعليمات– رجل جاد، مرتبك، وأحياناً ينتج شيئاً ذو فائدة. هو فيلسوف تبنى وجودية سارتر بحماسة. ولكن على عكس الحجج المدروسة بعناية والتي قد يجدها المرء في كتاب جامعي، فإن فهمه للوجودية مغربل عبر المخاوف والتطلعات الخاصة لبغداد في منتصف القرن العشرين. ولعل هذا التحول للفلسفة الأوروبية في سياق الشرق الأوسط هو الجانب الأكثر إثارة للاهتمام في عمل بدر. يبين لنا الكاتب كيف يمكن للأفكار، مثل النباتات، أن تنمو إلى أشكال جديدة بتغير التربة.

ويوفر مقهى “واق واق”، عالماً مصغراً للحياة الفكرية العراقية. فنجد هنا شخصيات تمثل مناهج مختلفة للتحديث والتقاليد. فهناك إسماعيل، الذي حوَّر الوجودية إلى مبرر للمتعة؛ الأمر الذي يدل على أنه إذا كنت مصمماً بما فيه الكفاية، فبوسعك أن تقرأ كتاب “الوجود والعدم” كدعوة للاحتفال. وإدمون، الذي يُطلَق عليه وصف “الوجودي”، ويبدو انخراطه في الفلسفة أكثر عصرية من كونه جوهرياً. وتقدم نادية خضوري، وهي تعمل في مكتبتها، لمحة عما يحدث عندما تلتقي الأفكار الكبيرة بالحياة الصغيرة. وربما كانت هذه الشخصيات لتتحول بسهولة إلى مجرد رسوم كاريكاتورية في يد أقل كفاءة، إلا أن بدر يمنحها تعقيداً يرفعها فوق الصور النمطية البسيطة.

وما يجعل الرواية رائعة ليس دقتها الفلسفية ـ بل إن عدم دقتها هو جوهرها. ولا تسيء شخصياته فهم سارتر فحسب؛ بل إنها تعيد تصوره، فتخلق هجيناً فلسفياً ليس فرنسياً بحتاً ولا عراقياً بحتاً. والنتيجة هي نوع من الكوميديا ​​الفكرية للأخطاء التي تقول الكثير عن الطبيعة البشرية أكثر مما قد تقوله رفوف مليئة بالنصوص الفلسفية المفهومة بشكل صحيح. إن ما يميز عمل بدر عن المحاولات الأقل أهمية في الخيال الفلسفي هو رفضه التعامل مع شخصياته باعتبارها مجرد أبواق للأفكار، فالمشاجرة الجسدية التي اندلعت بسبب خلاف حول سارتر توضح هذه النقطة تمامًا. إن الفلسفة في رواية بدر بغداد ليست ملاحقة مجردة بل قوة حسية تدفع الناس إلى العنف والعاطفة. وهذا يعكس ملاحظات أورويل الخاصة حول كيف يمكن للأفكار السياسية، عندما تسيطر على عقول الناس، أن تؤدي إلى مواجهات جسدية في الشوارع.

إن العناصر الفلسفية في “بابا سارتر” ربما كانت لتنحدر بسهولة إلى مجرد مواقف فكرية، ولكن بدر أنقذها من خلال تركيزه على الضعف البشري والحماقة. وعندما يستخدم إسماعيل الوجودية لتبرير سعيه إلى الكحول والجنس، فإننا لا نرى فقط تحوير الفلسفة ولكن أيضاً الميل البشري إلى ثني الأفكار العظيمة لخدمة غرائزنا الأساسية. وهذا يذكرنا بأن الإيديولوجيات النبيلة غالباً ما تعمل كغطاء لرغبتنا في السلطة أو المتعة.

رواية الوليمة العارية لعلي بدر

روايتان أخريين لبدر

إذا كانت “بابا سارتر” تبين لنا ما يحدث عندما تقولب البلاد الفلسفة، فإن “الوليمة العارية” توضح لنا ما يحدث عندما يتحول التاريخ نفسه إلى نوع من الأزمة الوجودية.

تدور أحداث هذه الرواية في بغداد عام 1917 أثناء الاحتلال البريطاني، وتثبت أن موهبة بدر الحقيقية تكمن في تصوير المدن التي وقعت في دوار التغيير. فبينما نجد في “بابا سارتر” فلاسفته المرتبكين، نجد في “الوليمة العارية” شخصية محمود، الحارس في القشلة، الذي يتسم موقعه بالحرفية والمجازية– رجل يقف عند مفترق طرق الإمبراطورية، ويراقب انهيار عالم ما ليحل محله عالم آخر. ويكشف التباين بين العملين عن تطور بدر كروائي. ففي “الوليمة العارية”، يكون العنف جسدياً ـ حيث تلمع السيوف، وتتساقط الجثث، وتأتي الخيانة بسكين. وبحلول الوقت الذي نصل فيه إلى “بابا سارتر”، يصبح العنف فكرياً، حيث تستخدم الشخصيات الأفكار بدلاً من الأسلحة، رغم أن كليهما قد يكون قاتلاً بنفس القدر. في مشهد لا يُنسى، يؤدي الخلاف الفلسفي حول سارتر إلى مشاجرة بالأيدي، مما يشير إلى أن المسافة بين بغدادين ربما ليست كبيرة كما قد نتخيل.

ما يربط بين هذه الأعمال بشكل أعمق هو انشغال بدر بالعملاء والوكالة– سواء بالمعنى السياسي أو الفلسفي. محمود في “الوليمة العارية” هو عميل حرفيًا، عالق بين المحتلين البريطانيين والولاءات المحلية، في حين أن الشخصيات في “بابا سارتر” تتصارع مع مفاهيم سارتر للحرية الجذرية والمسؤولية. في كلتا الحالتين، يقترح بدر أن المأساة الحقيقية ليست في الاختيار الخاطئ، ولكن في الوهم بأن خياراتنا هي ملكنا حقًا.

كما تشترك الروايتين في القدرة الرائعة على تحويل المواقع إلى استعارات. القشلة في “الوليمة العارية” والقهوة واق واق في “بابا سارتر” تصبحان عوالم مصغرة للمجتمع العراقي في لحظات تاريخية مختلفة. وتعمل كلتا المساحتين كمسرحين تتكشف فيهما دراما خاصة على خلفية الاضطرابات العامة، على الرغم من أن المخاطر تحولت من السياسية إلى الفلسفية – أو ربما، كما يقترح بدر، كانت دائمًا نفس الشيء.

في رواية “شتاء العائلة”، يوجه بدر عدساته إلى الداخل، فيستبدل المقاهي ونقاط الحراسة في أعماله السابقة بالفخامة الخانقة لقصر عائلي في بغداد. وإذا كانت رواياته السابقة قد أظهرت لنا مدناً في مرحلة انتقالية، فإننا نرى هنا ما يحدث لأولئك الذين يحاولون الوقوف ساكنين بينما يتغير العالم من حولهم.

يعمل المنزل الفخم في رواية “شتاء العائلة”، بمكتبته المهيبة وأسراره العائلية، كنقطة مقابلة لكل من التخمر الفكري في مقهى “بابا سارتر” والتوترات السياسية في “الوليمة العارية”. ومع ذلك، فإن كل المساحات الثلاثة مسكونة بنفس الشبح: السؤال المستمر حول ما يحدث للناس عندما يرفض عالمهم أن يظل على ما كان عليه. إن العمة في “شتاء العائلة”، التي تحافظ على مظهرها اللائق بينما تراقب العلاقة الغامضة التي تنشأ بين ابنة أختها، لا تختلف كثيراً عن عبد الرحمن الذي يتخبط في التفكير في سارتر، أو محمود الذي يحرس مدينة تفلت من بين أصابعه.

إن ما يظهر عبر هذه الأعمال الثلاثة هو موضوع بدر الحقيقي: الطريقة الغريبة التي يتحرك بها التاريخ عبر بغداد مثل الطقس، فيترك بعض الناس غارقين في الماء وآخرين يصرون بشدة على أن المطر لا يهطل. إن شخصياته ــ سواء كانوا فلاسفة أو حراساً أو أرستقراطيين ــ يحاولون جميعاً الإبحار في هذا المطر الغزير بأي مظلات في متناول أيديهم: الوجودية، أو الولاء السياسي، أو التقاليد العائلية. ولكن لا شيء من هذا يثبت أنه مقاوم للماء بشكل خاص.

إن التقدم من “الوليمة العارية” إلى “بابا سارتر” إلى “شتاء العائلة” يكشف عن كاتب مهتم بشكل متزايد بالحياة الداخلية لشخصياته، حتى مع تزايد حصار هذه الشخصيات لظروفها. يصير العنف أكثر دقة ولكن ليس أقل تدميراً: فهدم منزل يمكن أن يكون كارثياً مثل ضربة السيف، والسر العائلي يمكن أن يكون متفجراً مثل الخيانة السياسية.

رواية شتاء العائلة لعلي بدر

إن الإنجاز الذي حققه بدر عبر هذه الروايات الثلاث هو إثباته أن القرن العشرين في بغداد لم يكن مجرد سلسلة من الأحداث السياسية بل كان أزمة فلسفية وشخصية عميقة لعبت دورها في حياة عدد لا يحصى من الأفراد. وسواء كانت شخصياته تسعى للحصول على إجابات في سارتر، أو في الولاء السياسي، أو في الحفاظ على واجهات قصورهم المتداعية، فإنهم جميعاً يسألون نفس السؤال: كيف تظل أنت نفسك عندما يتغير كل ما يحددك؟ تكمن عبقرية بدر في إظهار أنه لا توجد إجابة، فقط جمال ومأساة السؤال.

وفي هذا الضوء، تظهر رواياته الثلاث كتنويعات على موضوع واحد: استحالة الوقوف ساكناً في عالم متحرك، واستحالة التحرك دون فقدان شيء أساسي. إنه موضوع يجعل أعماله ليس عراقية فحسب، بل إنسانية على مستوى العالم – حتى وإن استغرق الأمر مقهى في بغداد، أو مركز حراسة، أو قصر عائلي لجعلنا نراها.

ملاحظات

في حين تتفوق رواية علي بدر “بابا سارتر” في نقدها الساخر للمواقف الفكرية، فإن كتاباته ليست خالية من العيوب. فمثل العديد من المؤلفين الذين يتلذذون بالخطاب الفلسفي، يقع بدر أحيانًا في فخ الإفراط في التفسير. فشخصياته، على الرغم من كل خداع الذات، تُمنح مونولوجات مطولة تعمل كديكور فكري بدلاً من دفع الحبكة إلى الأمام. وهذا من شأنه أن يجعل الرواية تبدو ثقيلة بشكل مرهق، وكأن بدر مهتم بإظهار معرفته الفلسفية أكثر من سرد قصة مقنعة.

ومن بين نقاط الضعف الرئيسية في الرواية وتيرة الأحداث. غالبًا ما تتعثر الرواية في مناقشات مطولة، والتي على الرغم من كونها مثيرة للاهتمام، إلا أنها قد تبدو متكررة. تنخرط الشخصيات في حجج دائرية حول الوجود والحرية، لكن هذه المناقشات نادرًا ما تؤدي إلى أي حل أو تحول. وعلى النقيض من ذلك، تتميز كتابات أورويل – على الرغم من انتقادها للمثقفين المتكلفين – بالكفاءة القاسية. إن أسلوبه في النثر حاد، وأفكاره دقيقة. أما بادير، من ناحية أخرى، فيميل إلى التعرج، مما يجعل نقده أقل قوة مما ينبغي.

وهناك قضية أخرى تتعلق بوصف الشخصيات. فبينما تتسم شخصيات بدر بالتعقيد، فإنها غالباً ما تبدو وكأنها مركبات للحجج الفكرية والسياسية أكثر من كونها أفراداً مكتملي الشخصية. وتبدو أفعالهم ودوافعهم ثانوية مقارنة بمواقفهم الإيديولوجية. وهذا يؤدي إلى نوع من الانفصال العاطفي؛ حيث يُترَك القارئ ليراقب الشخصيات بدلاً من أن يشعر بها حقاً. وفي “بابا سارتر”، حتى عندما تمر الشخصيات بأزمات وجودية، نادراً ما تترجم هذه اللحظات إلى ثقل عاطفي حقيقي.

وأخيراً، هناك مسألة الإفراط. فأسلوب بدر الوصفي، على الرغم من ثرائه واستحضاره، قد يصبح مُتعباً في بعض الأحيان. يكافح بدر مع ضبط النفس، ويميل إلى الإفراط في إثقال سرده بالتفاصيل، سواء كانت تتعلق بالهندسة المعمارية لبغداد، أو السياق التاريخي للاستعمار الفرنسي، أو الأفكار الداخلية لشخصية ثانوية. وفي حين يساهم هذا في إضفاء أجواء الرواية، فإنه يخاطر أيضًا بإغراق القارئ في شرح غير ضروري.

باختصار، في حين أن بابا سارتر رواية ذكية وعميقة البصيرة، إلا أنها تتطلب الصبر أيضًا. تكمن نقاط قوتها في انتقادها الحاد للفكر الزائف وحدودها الساخرة، ولكن تضيع هذه النقاط أحيانًا بسبب الحوار المفرط، والوتيرة البطيئة، والمبالغة في التفاصيل. لا شك أن بدر كاتب ماهر، لكن ميله إلى الإفراط الفلسفي يجعل عمله أقل سهولة في الوصول إليه مما قد يكون عليه. ولو استطاع أن يوازن بين طموحاته الفكرية ورواية القصص بشكل أكثر إحكاماً، فإن أعماله ستكون أقوى أثراً.

دريد الغزال