التصنيفات
روايات

سياسة الهوية

عن رائعة ماكس فريش شتيلر

هنالك أمرٌ مقلق للغاية حول المرء الذي يرفض أن يعترف بهويته. في “شتيلر” لماكس فريش، نُقابل شخصًا كهذا بالضبط؛ أمريكي مفترض يُدعى وايت محتجز في سجن سويسري، ينكر بعزم أنه النحات المفقود أناتول لودفيج شتيلر، على الرغم من كل الأدلة التي تشير إلى عكس ذلك. قد تبدو الفرضية وكأنها تكرار لفيلم إثارة تقليدي، ويصنف الكثيرون، خطأً، هذه الرواية ضمن أعمال الأدب النفسي، إلا أن ماكس فريش صاغ شيئاً أكثر أهمية من الناحية السياسية: دراسة حول كيفية تجريد المجتمع الحديث من الهوية الفردية واستبدالها باليقين البيروقراطي.

ما يميز الرواية عن فلم إثارة تقليدي أن المهم ليس اكتشاف فيما إذا كان وايت هو شتيلر أما لا، بل آلية الدولة وإصرار المجتمع على تثبيت هويتنا في قوالب جاهزة. عندما تطالب السلطات الموقوف بالاطلاع على “جواز سفره الصحيح”، نرى هوس الدولة الحديثة بالتوثيق والتصنيف. ليس المهم ما تصرخ به الشخصية من أول سطر: “أنا لست شتيلر!”، بل ما تقول أوراقه أنه هو. لم يكن هذا الواقع البيروقراطي ليفاجئ كافكا، ولصنع من هذه اللحظة المرعبة كابوساً عبقرياً كما في المحاكمة. لم ينجح فريش في استثمار هذا الواقع إلا أنه ظفر في توسعته من خلال استكشاف طرق تسرب الهوية المفروضة إلى كل علاقة وتفاعل.

ما يجعل الرواية فعالة بشكل خاص هو استخدامها لدفاتر سجن بطل الرواية كأداة سردية أساسية. من خلال هذه الكتابات، نرى عقلاً يحاول بناء نفسه عن طريق اللغة، حتى عندما تحاول القوى الخارجية تخليقه بشكل مختلف. إن وعي بطل الرواية بقيود اللغة– تأكيده على أنه “يمكنك وضع أي شيء في كلمات، باستثناء حياتك الخاصة” يتحدث عن المشكلة السياسية الأوسع المتمثلة في كيفية إيصال الحقيقة في عصر البروباغندا والروايات الرسمية.

تعمل علاقة الشخصية مع يوليكا، المرأة التي تدعي أنها زوجته، كنموذج مصغر لهياكل السلطة الأكبر. مثلما تصر الدولة على نسختها من هويته، لا تستطيع يوليكا أن ترى ما وراء تصورها المسبق له على أنه زوجها المفقود. يعكس عدم قدرتها على التعرف عليه كأي شخص آخر عدم قدرة المجتمع الأوسع على قبول التحول الفردي أو التمرد على الأدوار المعينة.

تمكنت فريش من إنشاء شيء نادر: رواية سياسية لا تنحدر أبداً إلى بروباغندا، وترفض تقديم إجابات سهلة. بدل الإجابات طرح أسئلة محيرة حول الهوية والحقيقة وتقرير المصير أساسية لفهم كيفية عمل السلطة في المجتمع الحديث. ما إذا كان بطل الرواية هو شتيلر حقاً غير ذي أهمية تقريباً- ما يهم هو حقه في تعريف نفسه ضد آلية الدولة والمجتمع التي ترى أنه من حقها أن تحدده بطريقة أخرى.

يعكس رفض فريش للإجابات فهمه أن الحقيقة في الأدب، كما في الحياة، ليست أبداً مسألة بسيطة. يبني روايته من خلال طبقات من السرد المتداخل: كراسات بطل الرواية، المليئة بالملاحظات التفصيلية والذكاء المرير، تليها حاشية المدعي العام التي تحاول وضع السرد الرسمي للأحداث. يصبح هذا الهيكل نفسه حجة حول طبيعة الحقيقة ومن له الحق في تحديدها.

صوت بطل الرواية جيد الصنع بشكل ملحوظ. إن اهتمامه بالتفاصيل -مثل أوصافه الدقيقة لأوراق التبغ-، والذي يشبه اهتمام غابرييل غارسيا ماركيز، لا يعمل فقط كزخرفة ولكن كدليل على محاولته اليائسة لإثبات واقعه الخاص. عندما يدلي بتعليقات ساخرة حول وضعه، لا نرى ملامح الفطنة فقط، ولكن أيضاً صوت رجل يقاتل للحفاظ على شخصيته الفردية ضد الضغط الهائل للانصياع.

يكشف تعامل فريش مع العلاقة بين بطل الرواية ويوليكا عن فهمه الشديد لعلم النفس البشري. يراقب ’وايت المفترض يوليكا بانفصال، ويراها “فتاة خفية، تنتظر خلف وشاح من النضج الأنثوي”. في هذه الأثناء، يُصور شتيلر المفقود من خلال ذكريات الآخرين على أنه غيور وموسوس ويائس للحصول على توكيد الذات. التباين مذهل وهادف– طريقتان لرؤية ذات المرأة، نسختان محتملتان من ذات الرجل.

وإذا اعتبرنا خاتمة المدعي العام في النهاية كليشه نهاية أفلام التشويق التي تقدم إجابة المعضلة، فإننا نقع، أنفسنا، تحت كليشيه تصديق سردية السلطة على أنها الحقيقة النهائية. ملاحظة المدعي العام: “الكثيرون يعرفون أنفسهم، وقليل منهم فقط ينجحون أيضاً في تقبل أنفسهم”، تقطع صميم مخاوف الرواية. يوفر صوت المدعي العام ما يظهر على أنه سلطة موضوعية، لكن يقينه يجعلنا نتساءل عن طبيعة تلك السلطة. هذه كتابة ماهرة لا تُظهر أبداً فطنتها على حساب الحقيقة.

ما ينبثق بشكل أكثر وضوحاً من تقنية فريش هو فهمه أن الهوية ليست ثابتة بل مرنة. لم يُأكد تحول بطل الرواية – أو التحول المحتمل – بشكل قاطع. بدلا من ذلك، يظهر لنا استحالة اليقين المطلق في مسائل الهوية البشرية. إن القبول النهائي للشخصية بأنه “مستعد ألا أكون شخصاً آخر غير الإنسان الذي ولدت لأكونه”. لا يمثل الهزيمة بل نوعاً مختلفا من الانتصار؛ انتصار تعريف الذات على التصنيف الخارجي.

ويخدم هنا أسلوب فريش النثري غرضه على أكمل وجه. إنه دقيق دون أن يكون بارداً، ومفصلاً دون أن يكون مُسهباً. مع ذلك يعاني أسلوب الكاتب من بعض “الجفاف” الألماني المعتاد، فكل الفجائع، تقع مع بعض الدمعات، وكل المسرات مع بعض الابتسامات، دون شغف واضح ومؤثر قد يهز القارئ على المستوى العاطفي كما يفعل على المستوى الفكري.

اقتباس من رواية شتيلر لماكس فريش يقول: نعيش في عصر الاستنساخ معظم ما يشكل وعينا الشخصي بالعالم لم نره بأعيننا

تطور فريش الأدبي

أشهر أعمال ماكس فريش الأدبية هي مسرحياته، ثم رواية “هومو فابير” ترجمة شارل شهوان أو “الإنسان فابر” محمد جديد. عند فحص مجموعة أعمال فريش، يرى المرء في “شتيلر” تتويجا للموضوعات والتقنيات التي تظهر في جميع أنحاء كتاباته. تظهر مسرحياته انشغالاً بالمسؤولية الأخلاقية وطبيعة الحقيقة، ولكن في “شتيلر” تجد هذه المخاوف تعبيرها الأكثر اكتمالاً.

الفرق بين “شتيلر” و “هومو فابر” معبر بشكل خاص. حيث يقدم لنا “Homo Faber” لمحات مجزأة عن شخصية تتصارع مع التكنولوجيا والطبيعة، وتصوير الأحداث بدلاً من تجربتها مباشرة، بينما تقدم “شتيلر” فحصاً شمولياً أكثر للوعي البشري. قد ينكر بطل الرواية “شتيلر” هويته، إلا أن صراعه يجبره على الانخراط مباشرة مع العالم من حوله، على عكس انفصال فابر الميكانيكي.

في مسرحياته، غالباً ما يستخدم فريش الشك والتساؤل الأخلاقي كأدوات درامية. ومع ذلك، فإن شكل الرواية يسمح له باستكشاف هذه الموضوعات بمزيد من الدقة. استبدل الحاجة المسرحية للمواجهة المباشرة والعمل الدرامي الواضح في “شتيلر” بفحص أكثر دقة لعلم النفس البشرية. توفر كراسات بطل الرواية شيئاً قد يكون مستحيلاً على خشبة المسرح: الوصول المباشر إلى عمليات تفكير الشخصية أثناء محاولتها تعريف نفسها ضد الضغط الخارجي.

يظهر عمل فريش الدرامي تأثيراً واضحاً من بريخت، لا سيما في تركيزه على الأسئلة الأخلاقية والاجتماعية. لكن في “شتيلر”، ينتقل إلى ما هو أبعد من التعليمات الأخلاقية البسيطة إلى شيء أكثر عمقاً. لم يعد السؤال هو ببساطة ما هو الصواب أو الخطأ، ولكن كيف يمكننا أن نعرف أي شيء على وجه اليقين عن أنفسنا أو عن الآخرين.

يصل استخدام وجهات النظر المتعددة، التي تظهر في كل من مسرحياته ورواياته، إلى تعبيره الأكثر فاعلية في “شتيلر”. يخلق التناقض بين رواية بطل الرواية وتذييل المدعي العام توتراً يصعب تحقيقه على خشبة المسرح. هذا ليس مجرد إنجاز تقني ولكنه تقدم أساسي في قدرة فريش على تقديم أسئلة أخلاقية وفلسفية معقدة.

ما يميز “شتيلر” عن أعمال فريش الأخرى هو تزاوجها الناجح بين الشكل والمحتوى. يعكس هيكل الرواية ذاته – مع رواياتها المتنافسة والحقائق غير المؤكدة – اهتماماتها المركزية حول الهوية ومعرفة الذات. والنتيجة هي عمل يفوق كتاباته الأخرى في كل من الإنجاز التقني والعمق الفلسفي. ويظهر تطور فريش ككاتب بوضوح في تعامله مع الشخصية. حيث تتعامل مسرحياته غالبا مع الأنواع ورواياته الأخرى مع شظايا، تقدم لنا “شتيلر” بشراً مدركين تماماً. حتى الشخصيات الثانوية تعطى وزناً وأهمية. لأمكن أن يصبح النائب العام بسهولة مجرد رمز للسلطة، لكنه يبرز كشخصية معقدة لها فهمها الخاص للحقيقة والهوية.

يأخذ فريش في شتيلر الموضوعات التي تظهر في جميع كتاباته: الهوية والحقيقة والمسؤولية الأخلاقية، ويقدمها في شكل يتناسب مع تعقيدها. لذلك هي ليست مجرد كتابة ذكية، بل كتابة قادرة على إحداث فرق.

التصنيف: 4 من أصل 5.

رافاييل لايساندر