باختصار، تتحدث رواية سنان أنطون “فهرس” عن كل ما فُقد خلال الحروب المتلاحقة على العراق العظيم. ولتحقيق ذلك يدمج سنان بين سرديتين؛ الأولى سردية ودود وهي مزيج من السيرة الذاتية والتاريخ الشفوي الذي “يستنطق” عبره الألبومات، والطيور، والأشجار، وحتى الجدران لتعطيني منظورًا خلاقًا عما خسره تراث العراق وما عاناه في ذات الوقت. السردية الثانية عم يعانيه مغترب عراقي يعيش في البلد الذي يحتل بلده الأم. اسم الرجل نمير، لكن بسبب عمله كمحاضر حول الأدب العربي في الجامعات الأمريكية، واستخدام ضمير المتكلم، نشعر أن سنان ينقل مذكراته الشخصية، لا كتابات شخصية خيالية.
الفكرة رائعة من حيث المبدأ– ليست الأولى من نوعها لاستنطاق غير البشر والتحدث عن التاريخ، فيحضرني الآن مثلاً استنطاق جوليان بارنز لدودة الخشب للتحدث عن قصة سفينة نوح في “تاريخ العالم في 10 فصول ونصف”، وحتى كتاب منطق الطير لفريد الدين العطار -بدرجة ما-، لكن هنالك الكثير من المشاكل في تنفيذ هذه الفكرة.
المشكلة الأولى، والأكثر وضوحًا، أن المؤلف يحاول تغطية مدى واسع، وصعب، من القضايا في رواية صغيرة لا يصل تعداد صفحاتها للثلاثمئة صحفة. يريد التحدث عن التغير البيئي، والظلم الذي لحق بأصحاب الجوازات الإيرانية في عهد صدام، ومحاولات اندماج عربي في مجتمع غربي، وما يتبع ذلك من علاقات عائلية وعاطفية متوترة، والعلاج النفسي، وتدريس الثقافة العربية في الجامعات الأمريكية– يما يشمل الجامعات اليمينية منها، وهلم جر من قضايا. يريد سنان أن يكون شموليًا في روايته ويغطي كل المأساة العراقية دفعة واحدة، وكما نعلم فإن الشمولية في الأدب هي وصفة للركاكة والفشل، فما يبحث عنه الأدب هو التأثير العميق وليس اللمحات الموجزة كما في الأخبار، ويتطلب ذلك، بطبيعة الحال، استثمارًا ومجهودًا لإشراك القارئ عاطفيًا.
لأكون صريحًا، أنا معجب حقيقة بكثير من القصص التي وردت في هذه الرواية، ولكن أعتقد أن مذكرات نمير كانت تستحق رواية بذاتها تتحدث عن الاندماج في الغرب، ومثلها لشذرات ودود– وإن كانت الأولى لتكون أكثر جودة.
في إحدى مقاطع نمير يتحدث عن طالب يدرس عنده العربية ويطلب منه أن يعلمه أفعال الأمر. يستغرب الأستاذ من ذلك، كونه مبكر على مستوى الطالب، ليكتشف أنه مجند عسكري يود تعلمها لتوجيه أوامر الاعتقال عندما يسافر في مهمة إلى العراق. هذه القصة صادمة، وتحمل بذرة العديد من الصراعات والتساؤلات حول العيش والعمل في بلد يحتل بلد المرء الأم، لكنها بدأت وانتهت بسرعة. يمكن أن نقارنها بمقطع مشابه، لا أستطيع إخراجه من ذاكرتي، من رواية “ستونر” لجون ويليمز؛ حيث يواجه المدرس أحد طلابه… لا يوجد في الحقيقة أكثر من ذلك– مدرس وطالبه، لا صراعات ثقافية، ولا معضلات قومية. مع ذلك، استطاع ويليمز أن يدمج القارئ في الحدث، ويجعل مشاعر تختلط اتجاه المدرس والطالب في ذات الوقت عبر دقة تفاصيله، وترويه في سرد الحدث، على عكس مقطع سنان حيث لا نعرف أي شيء عن الطالب سوى الجمل القليلة التي قالها. تركز الرواية في المقام الأول على نمير ودود، مع إيلاء اهتمام أقل للشخصيات الأخرى. يؤدي هذا النطاق المحدود إلى ظهور شخصيات ثانوية ضبابية، مما يقلل من قدرتها على المساهمة في تعقيد السرد وثرائه.
في الحقيقة، هذه نقطة ضعف رواية “فهرس” الرئيسية؛ أنها أشبه بسلسلة من الخواطر والمذكرات الشخصية، عوضًا عن رواية مترابطة ومتناسقة. ففي حين تكشف المقتطفات عن رؤى حول الحالة النفسية لنمير ودود، فقد تكون هناك حاجة إلى صورة أكثر شمولاً لدوافعهما وعلاقاتهما وصراعاتهما الداخلية لإشراك القراء بشكل كامل. وهذا الأمر صحيح خصوصًا في أجزاء ودود– العديد من مقتطفاته عبارة عن شذرات قد لا تتعدى جملة واحدة، ولا تخدم تصور القصة بشيء. عدا عن أن شذرات مثل: “أنا سمكة بلا زعانف” هي كليشيه في ذاتها. وشذرات أخرى حول عدم فحوى النهايات، هي محاولة للقطع بحكمة أو موعظة دون توضيح أو مبررات منطقية مقنعة!
هكذا يتحول الهيكل غير الخطي للرواية، على الرغم من كونه مبتكرًا، إلى تحدي ومُشتت. تؤدي التحولات المستمرة بين وجهات نظر مختلفة وخطوط زمنية وأشكال كتابة مختلفة إلى تعطيل تدفق السرد وتجعل من الصعب متابعة الحبكة أو التواصل مع الشخصيات على المستوى العاطفي.
الغريب
يستخدم أنطون رمزية غنية في جميع أنحاء السرد، مما يسمح بالانخراط بشكل أعمق في موضوعات الرواية. إن فهرس ودود في حد ذاته رمز قوي لمحاولة إيجاد معنى للدمار والخسارة، في حين يعكس موضوع “الغريب” المتكرر موضوعات النزوح والاغتراب وتفتت الهوية في أعقاب الحرب.
يعمل موضوع “الغريب” على مستويات متعددة، ويعكس موضوعات الخسارة، والنزوح، والاغتراب، وتأثير الحرب والعنف. ويستكشف في الوقت نفسه التجارب الشخصية للاغتراب والواقع الثقافي والسياسي الأوسع. بطل الرواية، نمير، غريب، غادر بغداد في عام 1993 واستقر في الولايات المتحدة. ويختبر شعورًا عميقًا بالنزوح عند عودته إلى بغداد كمترجم لطاقم فيلم وثائقي. ويشعر بالغربة عن وطنه ويكافح للتوفيق بين بغداد ذكرياته والمدينة التي مزقتها الحرب التي يواجهها. وهو الجانب المؤثر بشكل خاص في موضوع “الغريب”– فكرة أن يصبح المرء غريبًا في بلده. وتؤكد لقاءاته مع ودود، وهو غريب آخر بطريقته الخاصة، على هذا الموضوع.
يجسد ودود شخصية الغريب بشكل أكثر حدة من نمير. فهو يوصف بأنه غريب الأطوار، ومنعزل، ومسكون بتجارب السجن والتعذيب. ويعكس مشروعه “الفهرس”، وهو محاولة غير تقليدية لتوثيق الخسائر غير المرئية للحرب، منظوره غير التقليدي وانفصاله عن المجتمع السائد. ويشير النص إلى أن غرابة ودود هي نتاج تجاربه الفردية وانعكاس للاضطرابات الاجتماعية والسياسية الأوسع في العراق.
كذلك تشير الرواية إلى أن الحرب والعنف لهما تأثير عميق على خلق الغرباء. فالحرب تقتلع الناس من جذورهم، وتدمر المنازل، وتقوض المجتمعات، وتترك الأفراد يشعرون بالضياع والانفصال. ويؤكد استكشاف الرواية للتجربة العراقية بعد الغزو على الكيفية التي يمكن بها للحرب أن تحول مكانًا مألوفًا إلى مشهد غريب، جسديًا ونفسيًا.
فهرس ودود
يعكس تركيز ودود على تسجيل الدمار “دقيقة بدقيقة” محاولته للتعامل مع الطبيعة المجزأة للوقت في مجتمع مزقته الحرب. تذكر الرواية أنه ينظر إلى الزمن باعتباره “ثقبًا أسود” يبتلع الأشياء ويجعلها تختفي. ويشير هذا التصور إلى اضطراب الحياة الطبيعية وفقدان الإحساس المتماسك بالماضي والحاضر والمستقبل الذي تفرضه الحرب.
ويتشابك تاريخ ودود الشخصي مع موضوعات الخسارة والدمار. ويوصف بأنه شخص “يعيش بمفرده في غرفة وليس لديه أي عائلة”. وقد سُجن وتعرض للتعذيب في منتصف التسعينيات لبيعه كتبًا محظورة. تساهم هذه التجارب في شعوره العميق بالخسارة وتغذي حاجته المهوسة لتوثيق الدمار من حوله، وهو أمرٌ نلاحظه في الواقع لدى العديد من الناجين من سجون الاعتقال السياسي. وكما بالنسبة لهم، يعمل الفهرس لودود كوسيلة لمعالجة صدمته والتعامل مع الشعور الساحق بالخسارة. فهو يمنحه شعورًا بالهدف والسيطرة في عالم حيث يبدو كل شيء مجزأً وفوضويًا. ولكن المصادر تشير أيضاً إلى أن تركيزه الشديد على الفهرس ربما يكون علامة على ضائقة نفسية أعمق.
افتتان نمير بفهرس ودود كفاحه الخاص للتغلب على تدمير بغداد وفقدان ماضيه. فهو يرى في مشروع ودود انعكاساً لصراعاته الداخلية ووسيلة لفهم التأثير العميق للحرب على الأفراد والمجتمعات. ومع ذلك، فإن رغبة نمير في ترجمة الفهرس ونشره المحتمل تتناقض مع إصرار ودود على إبقاءه خاصاً وحتى تدميره في نهاية المطاف. ويسلط هذا التوتر الضوء على الطرق المختلفة التي يتعامل بها الأفراد مع الخسارة والتحديات المتمثلة في تمثيل صدمة الحرب.
يضيف تدمير الفهرس في النهاية في تفجير في شارع المتنبي طبقة أخرى من المأساة إلى الرواية. فهذا العمل العنيف لا يودي بحياة ودود فحسب، بل يمحو أيضاً المظهر المادي لمحاولته إيجاد معنى للدمار والخسارة. ويسلط الكتاب الضوء على الطبيعة الدورية للعنف في العراق والنضال المستمر للحفاظ على الذكريات والتاريخ في مواجهة الدمار المستمر.
مع ذلك، فإن الاعتماد الشديد على الرمزية واللغة المجازية، وخاصة في كتابات ودود و”الحوارات”، يجعل الرواية مجردة بشكل مفرط أو غير قابلة للوصول لبعض القراء. يمكن أن يثري المجاز العمق الموضوعي، لكن في ذات الوقت، تصبح المعاني غامضة للغاية، مما يجعل من الصعب فهم الرسائل المقصودة أو التواصل مع تجارب الشخصيات على مستوى ملموس.
تتفاعل الرواية أيضًا مع مجموعة من الإشارات الأدبية والتاريخية، مما يثري السرد ويدعو القراء إلى النظر في السياق الأوسع للقصة. وتضيف الإشارات إلى مؤلفين مثل تشينوا أتشيبي، وإيتالو كالفينو، ووالتر بنيامين، وشخصيات تاريخية مثل التوحيدي، طبقات من المعنى وتربط التجربة العراقية بالتقاليد الأدبية والفكرية الأوسع. ولو أن الكثير من هذه الإشارات تبدو أحياناً مرغمة، ومحاولة للاستعراض الثقافي الواسع.

الحرب والدمار
من ناحية أخرى تنجح الرواية في تجاوز سرد الدمار المادي المجرد، وتستكشف التأثير المتعدد الأوجه للحرب، بما في ذلك فقدان الأحباء، وتآكل التراث الثقافي، وتعطيل الوقت والذاكرة، والثمن النفسي العميق للأفراد والمجتمعات. إن فهرس ودود، بتوثيقه الدقيق للخسائر التي تبدو غير مهمة، يجسد هذه القوة.
مع ذلك، فإن تركيز الرواية الدرامي المبالغ للتحدث عن الخسارة والدمار، على الرغم من قوته، قد يخلق أيضًا شعورًا بالتباعد العاطفي. إن الحجم الهائل للدمار المصور، جنبًا إلى جنب مع البنية السردية المجزأة، يجعل من الصعب على القراء الانخراط بشكل كامل في الرحلات العاطفية للشخصيات أو التعاطف مع معاناتهم. إن إمكانية الانفصال العاطفي تعيق قدرة الرواية على خلق تأثير طويل الأمد على القارئ.
تؤكد الرواية بشكل متكرر على مواضيع الدمار والخسارة والطبيعة الدورية للعنف. وفي حين أن هذه المواضيع تشكل جوهر رسالة الرواية، فإن تكرارها المستمر يؤدي إلى الشعور بالتكرار أو القدرة على التنبؤ في السرد بعد منتصف الرواية. وقد تكون هناك حاجة إلى استكشاف أكثر دقة لهذه المواضيع، ربما من خلال وجهات نظر متناقضة أو استكشاف ردود أفعال الشخصيات الفردية تجاه الخسارة.
يقدم سنان تصويرًا دقيقًا للآثار النفسية للحرب، وخاصة من خلال شخصيتي نمير ودود. يكشف كفاح نمير للتوفيق بين ذكرياته عن بغداد والمدينة التي مزقتها الحرب والتي واجهها عن التأثير الدائم للصدمة. إن فهرس ودود، في حين كان في البداية آلية للتأقلم، يصبح في النهاية مصدرًا لمزيد من الضيق، مما يسلط الضوء على تعقيدات التعامل مع الصدمة والقيود المفروضة على المحاولات الفردية للسيطرة عليها أو احتوائها.
وتطرح الرواية أسئلة مهمة حول قيمة الحياة البشرية، ومسؤولية أولئك الذين يشنون الحرب، وتحديات تمثيل الصدمات والخسارة. إن التفاوت في القيمة المعطاة لحياة الجنود الأميركيين مقابل المدنيين العراقيين، والذي تم تسليط الضوء عليه في مقال في صحيفة نيويورك تايمز، وبشكل مؤثر جدًا في وقفة الجامعيين المعارضين للحرب، يؤكد على التعقيدات الأخلاقية للصراع.
ليست أفضل أعمال سنان. الفكرة رائعة ومع القليل من التأني والتخطيط كانت الرواية لتكون رائعة أيضًا!
كتبها: