من الأمور الغريبة في هذا الكتاب، “بالخلاص يا شباب”، أنه يبدو كخليط من تجارب متباينة. فقد جمع المؤلف، وهو معتقل سياسي سوري، فصول ستة عشر عاماً قضاها خلف القضبان من خلال سلسلة من المقالات، كل منها تبدو مستقلة بذاتها. وهذا يضفي على السرد شعوراً متقطعاً وغير مترابط، مما يجعل من الصعب التمييز بين ما إذا كنا نقرأ مذكرات، أو رواية صحفية، أو دراسة اجتماعية. يستهل الكتاب قائمة وقائع تاريخية أساسية تخص اعتقال الكاتب مما يوحي بأنه عمل سيرة ذاتية، لكننا نقرأ لاحقًا أحد الفصول تحت عنوان: “لمحة عن تاريخ الاعتقال السياسي السوري”، وهو فصل كان يمكن أن يكتبه أي باحث أو مختص دون تجربة شخصية، بالإضافة لفصل هو مقابلة صحفية أجرتها رزان زيتونة. الكتاب مثل كتب أخرى وقعت عليها لياسين الحاج صالح، والكثير من كتب المثقفين العرب للأسف، تبدو كمحاولة لإعادة تدوير مقالات منشورة سابقًا وإعطاءها فرصة أخرى من التعرض. قد أبدوا كمن يركز على سفاسف الأمور التقنية، لكنني من المؤمنين أن كل صنف أدبي تخلق ليُلائم طريقة استهلاكه، وعندما يخرج عن نطاقه يفقد قدرته على التأثير. المقالات مصممة لتقرأ في جلسة واحدة وتعطي لمحة سريعة عن قضية ما، أما الكتب فتذهب أبعد من ذلك في تغطية الجوانب والعمق، وللتغلب على تحدي التعقيد الناتج عن ذلك يجب أن يكون مخططًا لها بتروي، وتبنى بشكل يوحد الجوانب المتعددة بشكل منطقي.
إن تحدثنا بعفوية عن شيء نعرفه، كما في كتب مذكرات السجون الأخرى، لا يعني بالضرورة أن القارئ سيتماهى مع تجربتنا. وفي ذات الوقت، إذا أكملت عدد من المقالات العدد الكافي لجمع كتاب، لا يعني ذلك أنها تعطي صورة مكتملة عن القضية المعنية. من هذا الموقع، فإن القارئ لكتاب “بالخلاص يا شباب”، وخاصة إذا كان الكاتب غير سوري أو غير عربي، يشعر بالضياع في الكثير من المواقع؛ مثل عدم إيضاح سبب الاعتقال أو تسلسل أحداثه، أو أن الكاتب من الحزب الشيوعي، وهو أمر لا نكتشفه إلى في منتصف الكتاب تقريبًا، رغم مناقشة هذه القضية مرارًا ولكن بشكل غير معلن فيما سبق. ورغم غياب العديد من العنصر المهمة لفهم التجربة، يشعر القارئ في كثير من المواضع بكثرة التكرار، مثل قصص إدخال الكتب إلى السجن.
لا أعلم لماذا أشعر أننا نحن السوريون دائمًا مستعجلون، ونفضل اختيار الطرق المختصرة على إعطاء الأمور وقتها؛ إذا أجرى العالم تجربة تحتاج سنتين من الاختبار، فإنه ينهيها في أقل من سنة، وإذا احتاج الباحث لإجراء استبيان على ألف عينة فإنه يكتفي بمئتين، وإذا أراد المؤلف الكتابة عن تجربة السجن فإنه يكتفي بتجميع مقالات سابقة عوضًا عن تأليف كتاب متناسق!
رغم هذه المشكلة الكبيرة يبقى كتاب “بالخلاص يا شباب” أحد أفضل الكتب التي وضعت عن تجربة السجن السورية، لعدة أسباب، هي:
إن أحد الجوانب المنعشة في كتاب الحاج صالح هو ابتعاده عن الأساليب المألوفة في أدب السجون السورية. فخلافًا للعديد من الروايات السابقة، التي تركز بشكل حصري على التفاصيل المروعة للتعذيب وأدواته، وتبتعد عن نفسية وفكر السجين، وكأن الجوهر هو طرائق التعذيب ذاتها لا أثرها على الفرد، يركز هذا الكتاب على موضوع أكثر ديمومة: البقاء على قيد الحياة. اكتشف المؤلف، وهو قارئ نهم، أن الكتب كانت شريان حياته في مكان حيث كان الأمل نادرًا. يروي كيف قام بتهريب النصوص المحظورة، وتشكيل مجموعات قراءة سرية مع زملائه السجناء. هذا التركيز على قوة العقل في تحمل الشدائد هو تغيير مرحب به عن السرديات المسببة لليأس والتي غالبًا ما تهيمن على هذا النوع.
لقد وضع الحاج صالح أصبعه على قضية مهمة جدًا، تناولها فيكتور فرانكل أيضًا، حول سبب قدرة بعض الأشخاص على هزيمة السجن بدلاً من أن يهزمهم ويحطمهم، فيما يفقد آخرون هذه الملكة ويدمرهم فقدان الأمل قبل التعذيب. يشير الكتاب الإسلاميون أن الأمر الذي ساعدهم على تخطي السجن هو قوة إيمانهم، لكن الحاج صالح يثبت نظرية فرانكل وأن الأمر يتخطى الدين إلى إيجاد المعنى أينما كان. بالنسبة للمؤلف كان هذا المعنى في الكتب والمعرفة، وعندما نقرأ المقاطع الخاصة بهذا الشأن نشعر بعاطفة جياشة وأمل بالتغلب على السجن السوري، الذي حوله كتاب آخرون إلى بعبع بمستوى الآلهة.
مشكلة أدب السجون السوري، ليست قلته كما يشير الحاج صالح، ولكنه تقوقعه حول الذاتية بشدة بحيث لا يمكن لأي شخص غريب أن يتماهى معه، على عكس ما فعله فرانكل في كتابه عندما حول تجربته في المعتقلات إلى تجربة بشرية شاملة عن المعنى. وهنا كان أمام الحاج صالح فرصة مماثلة.
أنا لم أدخل السجن يومًا، مع ذلك بسبب كل ما سمعته عن المعتقلات السياسية شكل السجن فوبيا بالنسبة لي. وعندما قرأت مقاطع المؤلف عن الكتب وأثرها على حياته في السجن، شعرت بالتماهي معها بعمق لأن الكتب ساعدتني في ظروف صعبة مشابهة، وإن لم تكن في مكان مشابه.
في الحقيقة يضع الحاج صالح أصبعه على العديد من الأمور المهمة، والتي لم يتناولها أحد قبله، مثل مشاعر الحنين للسجن بعد الخروج منه، وقوة السجن على التحريرية من المسؤوليات المعيشية. مع ذلك، فإن معالجة الكتاب لهذه المواضيع المهمة تبدو مستعجلة إلى حد ما. في حين يلمح المؤلف إلى القوة التحويلية للأدب مثلاً، إلا أنه لا يخوض بعمق في الطرق المحددة التي دعمته بها الكتب. لو خصص مساحة أكبر لاستكشاف هذا الجانب من تجربته، فربما كان قد أنتج عملاً رائدًا حقًا. لو كان الكتاب، بدلاً من هذه المقالات المشتتة والمكررة في ذات الوقت، عبارة عن “مذكرات قارئ في السجن” وتروي تجربة الاعتقال من زاوية القراءة لحصلنا على عمل أكثر تركيزًا واتساقًا، وأكثر تأثيرًا. لو أن الحاج صالح كتب كتابًا مخططًا له بعناية عن أي من المواضيع السابقة لقرأته بشغف، ووضعته ضمن كتبي المفضلة بلا أدنى شك.
هذا الأمر يقودنا إلى قضية أخرى، وهو إضاعتنا للتفاصيل المهمة حقًا في سبيل تحقيق الإحاطة الشمولية. إن محاولة تغطية 16 عامًا في السجون، كما يعد العنوان الفرعي، مسعًا طموح، سيعجز عنه المؤلف مهما بذل فيه من جهد، لذلك فإن التركيز على التجربة من جانب واحد، كما القراءة مثلاً، أسهل على القارئ لأن يستوعبها ويحيط بها.
أو بالإمكان التركيز على يوم واحد حتى كما فعل ألكسندر سولجينتسين في روايته “يوم واحد في حياة إيفان دينيسوفيتش”. على الرغم من تركيز رواية سولجينتسين على يوم واحد في حياة سجين في معسكرات العمل السوفييتية، إلا أنها تقدم صورة مفصلة بشكل مرعب للأهوال الجسدية والنفسية للسجن. إن تركيز المؤلف الثابت على الحقائق اليومية المألوفة لأي قارئ مثل العمل الشاق والجوع المستمر، يضفي على عمله أصالة مفزعة. على النقيض من ذلك، غالبًا ما تبدو سرديات “بالخلاص يا شباب” متسرعة ومجتزأة، مما يترك القارئ مع شعور بعدم الاكتمال.
الجانب الأخير المزعج بشكل خاص في كتاب “بالخلاص يا شباب” هو ميل المؤلف إلى إدامة الانقسامات ذاتها التي يسعى إلى كشفها. فهو يصف المعاملة غير المتساوية للسجناء على أساس انتماءاتهم الإيديولوجية، مشيرًا إلى أن الشيوعيين كانوا أفضل حالًا بشكل عام من الإسلاميين. وفي حين أن هذه الملاحظة صحيحة بلا شك، فإن نبرة المؤلف تعطي مبررًا للكتاب الإسلاميين، الذين كتبوا بطريقة شبه تحريضية بالفعل عن فرق المعاملة، ليقولوا: “ألم نقل لكم أنهم حصلوا على معاملة خمس نجوم!”. وبالقيام بذلك، يخاطر بتعزيز التحيزات الإيديولوجية ذاتها التي غذت العنف والقمع الذي عانى منه. على أي طرف يكون الراوي تفوته حقيقة أنه في المعتقلات لا يوجد معاملة حسنة وجيدة طالما أن حرية الإنسان مقيدة، وأن مهمة الراوي ليس فقط رواية تجربته الفردية، وإنما نقل تجربة جميع المظلومين، بما فيهم أولئك الذين لم يستطيعوا أن يخرجوا، أو يُخرجوا صوتهم.
تقييمنا: مؤثر ولكن يحتاج لتخطيط أفضل