قرأت أو سمعت عن روايات تتحدث عن الفن، والكتب، والمؤامرات والحبكات المشوقة التي تلف الفنانين والأديرة والمكتبات وحتى الفلاسفة، ولكن لم أتخيل يومًا أن اقرأ رواية عن اللغويات، وفوق ذلك تكون مشوقة وجذابة للقراءة، بعيدًا عن المحاضرة والتنظير.
تبدأ رواية “بابل، أو ضرورة العنف: تاريخ غامض لثورة مترجمي أكسفورد” مع طفل صيني تيتمه الكوليرا ويتبناه بروفسور بريطاني بسبب إخباريات عن مقدرات الطفل اللغوية. تبدأ أولى طعنات الاستعمار ومظاهره بتغيير اسم الفتى ليصبح غربيًا (روبن سويفت)، في إشارة إلى مدى أهمية الأسماء التي ننادى بها في تشكيل هويتنا الثقافية، وطرق الاستعمار في انتزاع هذه الهوية حتى في مقوماتها الأولية.
الغرض من تهجير الطفل؟ لكي يُسجل في المعهد الملكي المرموق للترجمة في أكسفورد- المعروف بالعامية باسم بابل. بابل هو جوهرة تاج الإمبراطورية البريطانية؛ مقر الترجمة، ولكن الأهم من ذلك أنه يعمل بـ “الفضة”، وهي ليست الفضة التي نعرفها في عالمنا، بل فن إظهار المعنى المفقود في الترجمة لخلق تأثير سحري. تمنح الفضة الإمبراطورية البريطانية قوة لا مثيل لها وتساعدها على استعمار العالم. في أكسفورد، يمتلك روبن كل ما كان يحلم به- لكن مع دروسه الأولى يكتشف أنه كلما تعلم اللاتينية والإغريقية كلما ابتعد عن لغته الأم، وأصبحت الأخيرة هي اللغة الأجنبية الغريبة بينما استوطنت اللغة الحديثة. تدريجيًا، يكتشف أن كل ما يفعله يعزز الاستعمار، ويخون وطنه. يجد روبن نفسه محاصرًا بين بابل وأولئك الذين يعملون على إسقاطها، وبالتالي إسقاط الإمبراطورية. يجب أن يقرر ما على استعداد للتضحية به- وما المطلوب لإحداث ثورة حقيقية.

يحب روبن اللغة ويحب التعلم، لكنه يكافح مع منصبه في أكسفورد. إنه يتصارع باستمرار مع قضايا الهوية والامتياز والإمبراطورية وما يريده بالفعل. يحب زملائه في الفصل -الأشخاص الثلاثة الأقرب إليه في العالم- لكنه أيضًا، من نواح كثيرة، وحيد جدًا. روبن بطل رواية محبوب وقابل للتواصل، مما يجعل الوصول إلى العديد من جوانب الكتاب أكثر سهولة. تطوره طوال الوقت هائل، وبينما قد تكون أفعاله في النهاية مثيرة للاستغراب، فمن السهل معرفة السبب.
كما يضيف كل من زملاء روبن في الفصل -رامي وفيكتوار وليتي- أبعادًا متنوعة للقصة. فرامي، زميل روبن المسلم الذي يشار إليه باستمرار على أنه هندوسي في أكسفورد، سريع البديهة، حاد اللسان، وملتزم بطريقة لا يقدر عليها روبن. فيكتوار، الهايتي الأصل من عائلة مستعبدة، سليط وغاضب بطريقة تصدم روبن ويكافح في البداية لفهمها، لكنه يتفهم غضبه تدريجيًا. ليتي، الإنجليزية، مختلفة تمامًا عن معاصريها- لطيفة وسهلة الحب ومصممة تمامًا على التأقلم، ولكن دائمًا في مسار مختلف نتيجة مولدها. تُكمل الشخصيات بعضها البعض بشكل جيد، ويستشعر القارئ دور كل منها في شمولية التغطية.
يميل الأشخاص والأحداث إلى أن يكونوا دقيقين تاريخيًا، مما يخلق تأثيرًا مشابهًا للرواية التاريخية. مع اكتساب المشاهد المؤثرة صدى أكبر مع تطور القصة. ومع ذلك، فإن القوة الحقيقية لنهج ’كوانغ يكمن في خرقها للواقعية ودمج الخيال في العمل. البحث الذي أجرته ’كوانغ لإحياء هذه الرواية رائع. العمل مليء بمقتطفات مؤثرة من التاريخ الحقيقي للقرن التاسع عشر والتعليقات الاجتماعية والسياسية في ذلك الوقت، ولكل منها تراكب طفيف في سياق تصنيع-الفضة silver-working. ويعتبر بناء العالم استثنائيًا، حيث يلتقط تمامًا جو الأوساط الأكاديمية وأكسفورد، من منظور الطالب الأبيض العادي في القرن التاسع عشر، والطلاب الأجانب. كل جانب يشعر بأنه ملموس وقابل للتصديق.
يعتمد تدفق “الفضة” العالمي إلى بابل على بيع المخدرات، مما يقودنا إلى سر الإمبراطورية القذر. كما هو الحال في التاريخ الحقيقي، أصبح الميزان التجاري البريطاني يعتمد على الأفيون، ويزرع في الهند البريطانية ويتم تهريبه إلى الصين. من خلال السعي لإنهاء تجارة المخدرات، يتحدى الصينيون الإطار الذي يدعم مكانة بريطانيا المهيمنة في العالم. يشهد القارئ مع روبن التجار البريطانيين الذين يستعدون لحرب الأفيون مع الصين، حيث ستعمل صناعة-الفضية في بابل على تشغيل السفن الحربية والجيوش البريطانية. يأتي روبن ليكتشف أن العلماء هم «سيوف الإمبراطورية». من خلال تصنيع-الفضة، يوجه كوانغ الرؤية الحاسمة لمنحة ما بعد الاستعمار: غالبًا ما كانت الدراسة الغربية لغير الغرب ولغاته جزءًا من المشاريع الإمبراطورية (لا مفر من التفكير بالاستشراق لإدوارد سعيد هنا). إن الصورة المصغرة الخيالية لبابل، حيث يُجلب الطلاب غير الغربيون مثل روبن ورامي إلى قلب الإمبراطورية، تشحن هذا النقد الما-بعد-استعماري حول مشكلة أكثر عالمية تتمثل في التواطؤ مع نظام الاستغلال.
فكرت السحر وصنع الفضة لبناء الإمبراطورية قد تبدو صبيانية وغير بالغة بعض الشيء، وربما كانت بحاجة للمزيد من التفكير والمراجعة لتصبح أكثر تصديقًا، لكن هذه ليست رواية خيالية بحتة، بل عمل يستكشف التعليقات الاجتماعية والسياسية بشكل أكثر. ولا يسلم هذا التوجه الأخير من النقد أيضًا، فهو يبدو “كيقظة-woke” سياسية واعظة حول الشمولية الاجتماعية، وبعيدة عن الواقعية القابلة للتصديق. وكما نعلم، هذا الوعظ هو الأشد خطورة على الأدب، ويجعله يفقد تمايزه عن المقالة وغيره من الأعمال الغير خيالية.
كما أن الرواية طويلة بعض الشيء بشكل غير ضروري؛ وخاصة في الجزء الأول، حيث تظهر وتمتد أحداث عدة بشكل بطيء مليء بالتفاصيل الغير ضرورية، والتي تبدو كمحاولة تفاخر معرفية. كل هذا التأخير في إظهار مغزى القصة قد يفقد القارئ الاهتمام بالرواية مبكرًا إن لم يكن محبًا للأكاديميا، واللغات وجذورها وتاريخها.
تقييمنا: قراءة ممتعة، وينصح به.
كتبها: رافاييل لايساندر
الكتاب في هذه المراجعة: Babel: or The Necessity of Violence: An Arcane History of the Oxford Translators’ Revolution, by RF Kuang