انتهيت مؤخرًا من قراءة رواية “لا ماء يرويها” للكاتبة الطبيبة السورية نجاة عبد الصمد التي أصدرت لتوها روايتها الرابعة.
الرواية متوسطة الطول وتتألف من عدد كبير من القصص التي تتقاطع في شخصية السيدة حياة. لا أعرف إذا كان من المناسب وصف الرواية بأنها تنتمي الى أسرة (ليست مدرسة) أدب السويداء (أدب جبل العرب، الأدب الدرزي، أدب الجنوب السوري). قرأت منذ فترة طويلة روايتي ممدوح عزام “قصر المطر” و”ارض الكلام”. والتشابه في المواضيع والشخصيات والجغرافيا لا يمكن تجاهله. وتمادياً في الاختزال، أقول بان الرواية تندرج أيضا في أسرة الأدب النسوي.
اللغة سلسة وأحيانا أثيرية. التشكيل مستخدم بحذاقة لتوضيح المعنى. المفردات محلية (كثير منها يحتاج إلى شرح بالنسبة لي). ولا يهمني تفصيح العامي او تعميم الفصيح، فاللغة هي اللغة، الهدف منها التعبير، وهي مفتوحة لأيدي النحات أكثر من خضوع النحات لها.
الخط الزمني متعرج ينتقل بين أزمنة مختلفة. وهذا جهد لا مانع عندي أن يطلبه مني الكاتب الروائي (بينما لا أحبه في المقالة). الأصوات متعددة وإن كان يغلب عليها صوت حياة، البطلة والراوية. وأحيانا تسمح الروائية للشخصيات باستخدام صوت المتكلم، لكنها قد تتوقف فجأة لتعود الى صوت حياة، وهذا ما أربكني بعض الشيء. الرواية متعددة الأصوات أصعب من رواية الصوت الواحد. وهنا تغرينا الكاتبة بروايات متوازية يحكيها أهلها ويعرضون فيها الأبعاد المختلفة لشخصياتهم. لكني أعتقد أن كل الشخصيات، غير حياة، كانت وحيدة البعد ووظيفية (اي لها دور محدد في حياة البطلة). بالنسبة لي هذه فرص ضائعة للغوص في شخصيات متعددة الأبعاد. لكن الكاتبة حسمت الموضوع لحساب ما يمكن ان أسميه أسلوب الحكاية: أي أحداث متسارعة وشخصيات متعددة وحكايات متشعبة تخرج من حكاية لتدخل في حكاية (أحيانا بطريقة تشبه ألف ليلة وليلة). الكاتبة لديها حكايات كثيرة، ولست متأكدا أنها كلها تغني الحبكة الأصلية. وهذا باعتقادي “مطب” تقع فيه الرواية شبه التاريخية أو التسجيلية التي تحكي قصة جيل ومنطقة وبلد بأسرها.
هناك معترضات بخط مائل وأخريات بخط غليظ. معترضات الخط المائل تشبه الكورس؛ تعطينا ملخصات شبه شعرية ومغزى لا تريد الكاتبة ان نتوه عنه. بينما معترضات الخط الغليظ، فهي معلومات توضيحية أو تاريخية. تفضيلي الشخصي: لا معترضات. أكتبي مئة صفحة زيادة (وحتى ثلاثية إذا اقتضى الامر) في وصف دقائق أفكار الشخصيات، أو وصف الأماكن والحالات النفسية، او منمنمات الحيثيات؛ لكن لا تعطيني الخلاصة بصوت الكاتب. هذا تفضيل شخصي جدًا.
شخصيات النساء مأساوية، ضحايا أو ضحايا لهن ضحايا. وشخصيات الرجال إما باثولوجية (مشوهة نفسيًا) أو طفولية في بساطتها. لا مانع في ذلك، التركيز هنا على مأساة امرأة في مجتمع شديد الذكورية وباثولوجي أيضا في ثقافته. لكني أرى هنا فرصا أيضًا. الشخصية الباثولوجيا (مثل خليل وأبو ممدوح) معقدة وتشكل تحدٍ للكاتبة. وهناك الكثير مما يمكن فهمه عن المجتمع من خلال تطوير هذه الشخصيات. لا بل لا بأس من شد رِجل القارئ أحيانا ليتعاطف مع تلك الشخصيات، إنها أيضًا ضحايا. في المجتمع الذكوري، النظر الى الرجل كضحية أصعب بكثير من النظر الى المرأة كضحية، لأن الرجل ضحية مستفيدة بينما المرأة ضحية بائسة على كل الجبهات.
هناك مرحلة ملتبِسة في حياة البطلة، وذلك حين أطلقت لنفسها العنان لتدخل في علاقات “جسدية”. وهنا أيضا فرصة. لماذا على الضحية ان تكون ضحية بكل المعايير. التمرد يمكن ان يكون سلبيًا بأن تدخل البطلة في علاقات يعتبرها المجتمع “مرضية” أو تمادٍ في تقمص الرمز السلبي. كأن يتهم المجتمع المرأة بالعهر لمجرد كونها امرأة، فتتقمص المرأة الدور وتمارس العهر. هذا لن يمس بطهرانية الضحية. يمكن للضحية ان تكون باثولوجية أيضًا. لماذا نخاف على القارئ من ألا يتعاطف مع البطلة الضحية أو ألا يراها في كل لحظة “كضحية مثالية”.
أخيرًا، شخصيتان ذكريتان رُسمتا بألوان إيجابية لأنهما أدتا وظائف إيجابية في حياة البطلة. لكن هذه الإيجابية لم تخرج عن تعريفات أخرى، لكن مرغوبة ومقبولة، للذكورية: واحد فدائي بطل، وواحد رجل دين صوفي. بالنسبة لي الشخصيتان ذكوريتان بامتياز لكن بشكل منقول. واحد نقل الرجولة الى النضال من أجل قضية عادلة، وآخر نقل الرجولة إلى طهرانية دينية مبالغ فيه. لا أعرف إذا كانت الكاتبة تريد أن تقول لنا أن هناك أنماط رجولية إيجابية. لكنها اختارت أنماطا أيديولوجية مغرقة في الذكورية: القومية والدين. ولن أتكلم هنا عن رمزية سلطان باشا الاطرش (الإشكالية باعتقادي)، لأن هذا يحتاج إلى تحليل مجتمع كامل: واحد سوري وواحد درزي.
كلمة أخيرة، قصة حياة هي باعتقادي قصة حب رومانسية، أي أن موضوع الحب في ذهن المحِب متخيل تمامًا. لا أنكر أن عدم سماح المجتمع لها بان تمارس أي حب تريده هو مأساة بحد ذاتها. لكن محور مأساوية البطلة هو قصة حب رومانسية لا يمكن إنتاجها إلا في مجتمع ذكوري. هل من الممكن أن تتمرد البطلة على المجتمع بأن ترفض هذا النمط الرومانسي للحب؟ لا رأي لي الآن في هذه المسألة. إنها ملاحظة فقط.
شكرًا للكاتبة مرة أخرى. الرواية عملية خلق كاملة ترفع لها القبعات.

كتبها: أحمد نظير الأتاسي
أستاذ التاريخ الإسلامي والشرق أوسطي في جامعة لويزيانا التقنية. فيسبوك