كتبها: رافاييل لايساندر
السارق ممتعض من تعرضه للسرقة
على مجموعة تلغرام لنشر الكتب المسروقة، يكتب صاحب الحساب رسالة مطولة يشتكي فيها من قلة الدعم، وإحساسه بضياع جهده، حيث تقوم مواقع على الانترنت بأخذ الأعمال التي يصورها، وينشرونها بأسمائهم للشعبية والربح من الإعلانات. لا يجد هذا الشخص، على ما يبدو، أي مفارقة مضحكة فيما يفعل. هو منزعج لأن الآخرين يسرقون جهده ويتحصلون من وراءه على ربح سهل، وهذا ما يفعله هو بالضبط من سرقة جهد الآخرين- وإن اختلفت طريقة الربح.
لكن المتابع لسوق النشر العربي يعرف أن المفارقة لا تفوت هذا الشخص فقط، بل كثير من دور النشر كذلك. هنالك أمر مقلق يحدث في هذا الخصوص، ويبدو أن دور النشر هذه تظن نفسها “فهلوية” جدًا لدرجة أن لا أحد يلاحظ.
من الشائع اليوم أن يصدر كتاب أجنبي، ذو حقوق في المشاع الإبداعي، بترجمة تعب عليها صاحب اختصاص، ثم بعد أيام قليلة تبدأ تتوالى ترجمات أخرها لنفس الكتاب، ولكن عن دور نشر أخرى. هكذا، من باب المصادفة، أصبح للكتاب المنسي طوال هذه السنين، ولا يجد من ينقله للعربية، ترجمات عدة بعد صدور الترجمة الأولى!
ما يحدث أنه بعد الترجمة الأولى، وبما أن الكتاب في المشاع الإبداعي ولا يحتاج لتأكيد من الكاتب، تقوم دور نشر أخرى بنسخ الترجمة مع تغيير بعض الكلمات الواضحة، ثم تنشر العمل تحت اسم مترجم لم يسمع به أحد. أشهر مثال على ما أقول هو رواية 1985 لجورج أوريل التي توجد نسخ منها أكثر مما يمكن عده، وكلٌّ منها تحت اسم مترجم مختلف حتى أضعنا المترجمين الحقيقين للعمل. لا يعني هذا، بأي شكل، أن الترجمات الأولى هي الأفضل، أو أنها الأصل. يصدر للإلياذة، مثلاً، ترجمة إنكليزية جديدة عن الإغريقية كل بضع سنوات، لكن ولا واحدة تشبه الأخرى، وكل مترجم يفسر النص ويضيف إليه وكأنك تقرأ عملاً جديدًا كل مرة. أما ما نتحدث عنه هنا فهو نسخ مفضوح، يظهر في أبسط الأخطاء اللغوية والفكرية.
هذا النوع من السرقة مكشوف وواضح للعيان. لكن دور النشر هذه لا تتوقف عند ذلك فقط، وهنالك الكثير من الأعمال اللاأخلاقية التي لا تظهر إلا لمن دخل قلب الوحش. الكثير من دور النشر العربية تسرق المترجمين ولا تدفع مستحقاتهم، تعتمد استغلال حاجة المترجمين للعمل ولا تدفع أجورًا عادلة، تأخذ من المؤلفين مبالغ طائلة مقابل نشر عدد من النسخ ثم لا تطبع إلا نصفها أو أقل، تتقاضى رسومًا مضاعفة مقابل تسجيل الحقوق والمشاركة في المعارض، تسجل تكاليف وهمية عندما تتعامل مع داعمين ثقافيين، وغيره الكثير من طرق النصب والاحتيال.
تأتي المفارقة عندما تقوم دور النشر هذه تحديدًا، ولا غير، بالشكوى من تعرض كتبها للسرقة على الانترنت، مما يؤدي لضعف الدخل ويجبرها في النهاية على رفع أسعار الكتب لتغطية التكاليف فقط!
بما أن دور النشر هذه لا تستهدي بالمبادئ الأخلاقية التي تمنعها عن سرقة غيرها، ما مانع القارئ الميسور أن يسرق منها، وهو يبحث عن المعرفة فقط، بينما تبحث هي عن الربح المادي؟
السرقة من السارق حلال؟
نتصور أن هدف أي دار نشر يجب أن يكون ساميًا وليس تجاريًا بما أنها تتعامل بوعاء المعرفة. لكن، في الحقيقة، لا تختلف دور النشر عن أي عمل تجاري مثل صناعة المكياج، أو صناعة المواد الغذائية، ومتى ما تخلينا عن تبجيل هذا القسم من الأعمال، كان تعاملنا معه واقعيًا أكثر.
عمل دور النشر مع المعرفة والثقافة والفكر لا يعني أن تكف عن طلب الربح. من حقها أن تحصل على دخل مالي، كما يحصل الطبيب على أجرة من معالجة المرضى، وكما تسعى في عملك وأسعى في عملي. لكن ما ليس مقبولاً هو سرقة جهد الآخرين وتعبهم لتحقيق المربح.
الأدب عن لاأخلاقية قرصنة الكتب لا ينضب. ولا أحد أعمى عن هذه النقطة. لكن في الحقيقة، العدو والخطر الحقيقي على دور النشر المحترمة هو دور النشر نفسها. لا تشكل الكتب المسروقة، مهما كثر عددها، نسبة كبيرة من الكتب المنشورة فعليًا. كما أن هذه الكتب نفسها تشكل وسائل دعائية وترويجية، حيث يقبل الكثيرون على شراء النسخة الأصلية بعد الاطلاع على الكتاب المسروق والإعجاب به. والانترنت الذي كان من المفترض أن يقضي على النشر والكتاب المطبوع، فجر عصرًا ذهبيًا لهما.
هنالك الكثير من الكتب اليوم، ولا يستطيع القارئ العربي تحمل كلفة شراءها كلها، لكنه عندما يطلع عليها الكترونيًا، ويعجب بأحدها، تراه يقتني الأصل. يسرق الناس الكتب التجارية ذائعة الصيت، ويودون الاطلاع عليها لمرة وحدة من باب اكتشاف سبب الضجة لا أكثر، لكنهم مستعدون للدفع مقابل الكتب الثمينة التي تستحق الاقتناء فعلاً. عندما طلبت الغارديان من قراءها إخبارها بتجاربهم مع قرصنة الكتب، أجاب الكثير انهم يرجعون للكتب المسروقة بسبب حالهم الميسور ماديًا. وقال أكثر من شخص أنهم قاموا فقط بقرصنة “الأسماء الكبيرة” وعندما “لا يبدو أن المال يعوز المؤلف”. كما أفاد الكثيرون بأنهم بدأوا قرصنة الكتب أثناء الجامعة، عندما واجهوا معضلة شراء الكتب الغالية ليستخدموها كمرجع مرة واحدة ولا يحتاجوها بعدها أبدًا. لكن الغالبية من المشاركين قالوا إنهم قرصنوا الكتب من أجل “قراءتها مسبقًا”، لأنهم غالبًا ما شعروا بعدم الرضا عن كتاب بعد شرائه. قال أحدهم: “لقد دفعت مقابل بعض الكتب الرهيبة حقًا وندمت- بفضل القرصنة، يمكنني القراءة أولاً. سأشتري الكتاب إذا كان جيدًا بما يكفي لدرجة أنني واصلت قراءته”.
يتضمن “تاريخ القراءة” المبهج لألبرتو مانغويل فصلاً عن “سرقة الكتب” يروي حجة إحدى سلطات القرن السابع عشر بأن “سرقة الكتب لا تعد جريمة ما لم يتم بيع الكتب”. إن القارئ الذي يسرق الكتب كوسيلة للوصول إلى المعرفة، يمنعها عنه عوائق مادية أو جغرافية، ليس خطرًا على مسيرة النشر العربي. فما يفعله، على عكس ما تهول الجرائد، يشبه القراءة في المكتبات العامة، أو شراء الكتب المستعملة. الخطر الحقيقي على هذه المسيرة هو دور النشر نفسها التي لا تمتلك أي منهجية أو رؤية للعمل الصحيح. ولا يمكن فصل سوء تنظيم هذا القطاع عن أي قطاع اقتصادي يعاني في البلدان العربية؛ الطب مثلًا يعاني من قضايا استغلال و”اتجار” مشابهة. ولا يمكن، كذلك، تجاهل ضعف دخل المواطن العربي عند مطالباته بالابتعاد عن قرصنة الكتب.
طلب واقعي
دور النشر المحترمة، التي تبذل مجهودًا على أعمالها، معروفة للجميع (لا أستطيع ذكر بعضها هنا لأنني سأنسى البعض الآخر فيظهرون على الجانب السيء). ومن الممكن اعتبار أي عملية شراء من هؤلاء الناشرين، ولو بأسعار مرتفعة قليلاً، كعملية استثمار لاستمرار هذا الإنتاج الفكري. إن لم يحقق هؤلاء الناشرون دخلاً وربحًا، فلن تُنتج أعمالٌ جديدة. قد تبدو أعمال ناشرين آخرين أرخص وأسهل توفرًا، ولكنهم لا يستطيعون إنتاج أعمال جديدة من دون أحد ليسرقوا منه- والأهم أنك تعطي مالك لسارق جهد غيره.
لذلك فبعض البحث عن الطبعات الأصلية، والمُلاك الفعليين للحقوق الفكرية، لن يضرك في شيء، وسيكون استثمارًا في المعرفة على المدى الطويل.