التصنيفات
قصص قصيرة

حَديثُ دُرَيْد الغَزَال

قصة قصيرة عن مكتبات حلب المفقودة

كتبها: رافاييل لايساندر

حَدَّثَنَا دُريد الغَزال بِقِصَّةٍ غَرِيبَةٍ جَرَّتْ مَعهُ في سِجنٍ أمني وَمَا حَدَثِ مَعَهُ مِن وَقَائِعِ تبعًا لِذَلكَ. قال: كنت معتقلًا تحت الأرض، لا يمتاز حالي عن عذاب القبر سوى أن معذبي شيطان بشري. زنزانة ضيقة أقبع فيها وحدي، لا أعرف ليلي من نهاري، ولا متى يُفرج عني بالإعتاق أو الموت. ثم ذات يوم أتاني السجان وقادني عبر ممرٍّ طويل كله زنزانات منفردة مثل زنزانتي، مصطفة على جانبي الممر كالرِّجام، لا يُسمع من داخلها إلا آهات رجال ونساء؛ وما بدا صوت طفل رضيع. لما وصلنا آخرها فتح السجان الباب، ودفعني داخلاً قائلاً: “اعتني به”.

استغرقت عيناي بضع ثوانٍ حتى اعتادتا الظلام، ورأيت هيكلاً عظميًا مُلقًا أمامي. كانت الرائحة لا تُحتمل، والأرضية مليئة بالقذارة، ولم أفهم لماذا وضعوني هنا لأعتني بجثة.

لكن الجثة اهتزت، وأصدرت همهمة مخنوقة. نظرت حولي فرأيت وعاء ماء عكر، فحملته وقربته من فم الرجل. كان ضعيفًا جدًا لدرجة أنني لم أتبين حقيقته، فلما اقتربت منه وجدته رجلاً كهلاً وجسده ممتلأ بالجروح والبثور والتقرحات. بدا أنه قاوم التعذيب ولم يتحصلوا منه على ما يريدون، فأحضرني السجان للعناية به بعد أن قرِف الرائحة والقذارة.

أحيانًا تشتعل في نفس المرء مقاومة تكسر جبروت الطغاة. تظن أن رجلاً ضعيفاً مثلي لا يقاوم التنكيل يومًا واحدًا فإذا بي أصمد سنوات بعناد. فإذا رأى، هذا الذي قاوم أصناف العذاب بلا صوت، نفسًا بشريةً أخرى تعاني انهار كلّيًّا. ذلك ما جرى لي، فذرفتُ أبكي حال الرجل ومعاناته، لكنه لم يحرك ساكنًا ولم ينطق حرفًا.

بقي الرجل على هذه الحال لا ينطق ولا يتلفظ إلا آهات الألم، وأضغاث الكوابيس. في أحد الأيام أتى سجانان وحملاه من أسفل ذراعيه إلى التحقيق، لكن الرجل لم يكن في حالة واعية تفيدهم، فأعادوه جثة معلقة بين الحياة والموت. أعطيته حصتي من كسرة الخبز التي يدفعونها لنا من تحت الباب، لكنه ما كان يستطيع تحريك فمه، وحاله تزداد سوءً.

ثم ذات يوم بينما كنت أصلي، وكانت الزنزانة ضيقة علينا فلا أستطيع القيام للصلاة، بل أصلي جالسًا وهو قبلي، كنت أقرأ من سورة يوسف فوجدته ينظر إليّ- ولكم أرعبتني نظراته. كان الضوء الأصفر القادم من الممر مطفأ، ولم تَبن في عتمة القبر تلك سوى عيناه الممتلئان دمًا تحدقان بي. كان رجلاً مسكينًا، لكني رأيت الموت في عينيه فارتعدت.

لما فرغت من الصلاة، تحدث الرجل لأول مرة، قال: “يا ولدي، أما ترانا في مكان لا نعرف ليله من نهاره، ولا نملك أن نتطهر، ولا جلدًا للوقوف للصلاة أو حتى تحريك ألستنا بالقرآن، أفلا يقوم لنا العذر؟”

“بلا يا سيّدي،” رددت، “لكنني أصلي لله محبّةً وتقربًا ورغبة، لا فرضًا فقط، فأصلي حتى ولو بشغاف قلبي”.

ولم يرد الشيخ، فسألته إن كان يريد شيئًا، فقال: ” اِسمَع يَا وَلَدي، لَعَلَّ الرَّحمَنَ الرَّحِيم أَتَى بِكَ هُنَا مِن واسِعِ عِلمِهِ حتَّى لا يَضِيع سِرِّي، فَإني أَرَى فِيكَ التَّقوَى وَأَرجُو مِنكَ خَيرًا. أخبِركَ أمورًا تَعُدْنِي أن تَحفّظَها، وتعمل عَلَى صَونِهَا متى ما خَرَّجت من هُنَا”.

ولم أكن أرى لنفسي مخرجًا إلا ميتًا، لكن الأمر بدا كأمنية أخيرة لرجل مفارق، فوعدته، ليخبرني بأمر عجب لا يصدق، حسبته من سكرات الموت. وبالفعل كان الموت، فما أن انتهى الرجل من حديثه حتى أغمض عينيه واستراح. لكن ما قاله لم يكن سكرات، بل تلك اللحظة من الوضوح التام، عندما فارق عقله جسده الذي يعاني، وصار بصره حديد، وحياته كله أمامه، يسرد لي ما يشاء منها بكل دقة.

بقيت جثته أمامي من طرف الباب يومًا كاملاً، وأنا جالسٌ القرفصاء في الزاوية لا يغمض لي جفن. بعدها أخذوني ووضعوني تحت التعذيب، وحققوا معي فيما إذا أخبرني الرجل بأي شيء قبل موته. أخبرتهم أنه كان جثة لا تنطق، وكانوا يعرفون تمامًا بأي حال صار الرجل تحت أيديهم، فنسوني في النهاية.

أخبرني الرجل قبل موته أني سأخرج من هنا، فإذا خرجت كان لِزامًا عليَّ تحقيق ما وعدته به. ظننته يهذي ونسيت ما قاله، فلم أسمع أحدًا ممكن كان معي خرج من هذا المكان إلا كما خرج العجوز. لذلك عندما استدعوني بعد نسياني ظننت أني أقتاد للإعدام، ولم أصدق شيء مما يجري حتى وجدت نفسي في الشارع أتطلع إلى نجوم السماء.

لم استوعب ما جرى، وفوقها وجدت البلاد في حالة اضطراب وكأنهم رموني في أرضٍ لا أعرفها، فلما سألت واستقصيت، أخبروني أن ثورةً خرجت من باب القبلة وأن خروجي ما هو إلا نتيجة عفو رئاسي لمحاولة امتصاص هذه الصدمة.

بحثت عن أهلي فلم أجد منهم أحدًا، وكانوا قد تفرقوا في بلاد الله الواسعة تحت وقع خشيتهم من الملاحقة في هذه الظروف وابنهم المعتقل السياسي. خطر لي اللحاق بهم ونسيان هذه البلاد، لكنني تذكرت وعد الشيخ، خاصةً وأن كل ما أخبرني به حتى الآن قد تحقق، من الإفراج عني، وحتى قيام الثورة التي لا يمكن أن يكون قد سمع بها داخل أروقة ذلك المكان.

سافرت نتيجة هذا القرار إلى حلب، وكانت الطرق مقطعة، والحواجز منتشرة، وإيقافي على إحداها لا يعني اعتقالي كالمرة الماضية، بل الإعدام الميداني، فسافرت متخفيًا، وسلكت دروبًا غير مطروقة، وخضت غمارًا مجهولة حتى وصلت أسفل قلعة حلب، حيث التقيت الرجل الذي أقصد.

كان أول رجل ألقاه من هؤلاء الثوار؛ رجلاً في منتصف العمر، متواضع البنية، حسن المحيا، عزيز النفس. كان قد خبر المعتقل والتعذيب مثلي، فلما اشتعلت الثورة ترك عمله وأهله ليلتحق بركب التحرير. رتبته إقدامه في المعارك، وسلطته احترام إخوانه. كان أول ما سألته إياه إن كان هو المسؤول عن هذا الموقع، وكان أول ما أخبرني به:

“كلنا مسؤولون أمام الله، ولكن نعم أنا قائد الكتيبة المرابطة هنا. ماذا أستطيع أن أفعل لك؟”

“أريد أن أصل المكتبة الوقفية” أجبته.

“وما شأنك بها؟”

” لا شأن لي بها. إنما هي وصية رجل ائتمنني عليها وهو على أرضية الموت”.

“من هو؟”

“لا أعرف عنه شيئًا سوى خاتمته، وما أوصاني به”.

هنا راح قائد الكتيبة يسألني ويستفسر مني مطولاً عن مكان اعتقالي ومن أين اعتقلت ولماذا، ويتأكد من هويتي وأين أهلي وأقربائي، ثم في النهاية قال:

“أستطيع أن أرسل من يأخذك إلى هناك، لكن المكان على خط الجبهة؛ معرض للقصف دائمًا، والطريق ذاته على هناك مقنوص وخطير”

قلت: “أذهب، فقد نفضت يداي من هذه الحياة، وما ظننت أن أخرج من المعتقل حيًا، أما وقد خرجت، فلزامًا عليّ الوفاء بوصية الشيخ، لو كلفني ذلك حياتي”.

وكان ذلك، وأخذني شاب ثائر إلى المكان الذي كان اسمه على لسان الشيخ آخر أيامه. نزلنا أنفاقًا، ومررًا في طاقيات بين المنازل، وقطعنا شوارع يرصدها قناصة حتى وصلنا مبنى حجري تحت مئذنة الجامع الأموي.

كان بناءً مهولاً، لا من حيث حجمه، وإنما من إحساس الجلال الذي يفرضه دخول مبنى شهد التاريخ مثل هذا. كان المكان مظلمًا لعدم توفر الكهرباء، والغبار يغطي كل شي نتيجة النوافذ والأبواب المحطمة، والجو يعبق برائحة الورق الرطب، والتحف والسجاجيد واللوحات المخطوطة تملأ المكان. كل هذه العوامل زادت من تأثير الإحساس بقدم وهيبة هذا المكان، لكن العامل الرئيس كان الكتب- ازدحم داخل المبنى بأرفف الكتب والمجلدات التي كان بعضها مرميًا على الأرض.

رحت أتجول بين الأرفف، واستطعت أن اكتشف تحت ضوء المصباح كنوزًا تسعد أي مهتم بالأدب والعلوم والإنسانيات. مجلدات من المراجع المهمة، ومصنفات لم يعد أحدٌ يقرأها، وكتب لا يعرف الكثيرون وجودها. وبينما نحن منشغلون في تجوالنا إذ سمعنا صوت أقدام تتحرك بثقل. كان القادم شبحًا يصعد الدرج مما بدو قبوًا في هذه المكتبة، وتقدم بثقة من دون نور يستأنس به في هذه الظلمة.

لا أخفي أنه أرعبني، وأصبت بالوَهَل والوجل، وجمدت للحظة، حتى إذا أفقتُ من غشيتي، وانتبهت من دهشتي، أخذت أسرع في مشيتي إلى جانب الشاب العسكري الذي صوب بندقيته تجاه الشبح، وكان بالإمكان سماع صوت قلبينا يخفقان من بعيد. اقترب الشبح منا وكأنه غير مكترث بالبندقية المصوبة اتجاهه، ووقف في منتصف المسافة، وسلم بكل هدوء.

“من أنت؟” سأل العسكري بتوتر دون أن يرد السلام.

“أنا خادم المكتبة”. قال الشبح

لا أدري من أين أتتني الجرأة، ولكن لما سمعت صوت الرجل الذي يدعي أنه خادم المكتبة سقطت كل دروعي وتركت جوار صديقي وسرت صوب الرجل. لم يتحرك بينما اقتربت منه، وبقي وجهه معلقًا في نقطة معينة في السقف، عندها صدمني الأمر- كان الرجل أعمى لذلك لم يحتج النور في الظلام.

“هل أنت وحدك هنا؟” سألته.

“نعم” أجاب باختصار.

“ألا يوجد خطر عليك؟ كيف تستطيع تأمين امورك لوحدك في هذه الظروف؟”

“لا أستطيع ترك ما أنا مؤتمن عليه”.

“وما ذاك؟”

“هذه المكتبة”.

“هل هذه الكتب أغلى عليك من حياتك؟ ثم إن الجميع تركوا وظائفهم، ما الذي يبقيك هنا؟”

“أنا لست موظفًا هنا يا سيدي. ما يبقيني هنا هو ما أتى بك”.

صدمتني إجابته كصدمة موسى يوم دك الجبل، وأحسست أنه يعرف كل شيء مسبقًا، ومع ذلك سألته: “وما الذي أتى بي؟ ما يدريك أني لست بلص؟”

“لا يا سيدي لستَ لصًا، لم يحن دور اللصوص بعد على كلّ. حضرتك أتيت لنفس سبب ووجودي هنا؛ وصية شيخي”.

نعما كان يعرف كل شيء، ولكن من أين له ذلك. هذا الأمر برمته يكاد يفقدني عقلي، نظرت خلف ظهري إلى الجندي فوجدته أنزل بندقيته، وفي وضع استغراب مثلي.

“ومن شيخك؟” سألته وقد تفصد جبيني عرقًا.

“تعرف من، ما من داعٍ لنضيع الوقت في ذلك” قال والتفت ماشيًا “والآن تعال معي، هنالك الكثير من العمل الذي يجب أن ننجزه”.

“اسمع يا شيخ” ناديته وأنا أحاول اللحاق به، فيما بدى مستعجلًا كعسكري في مهمة “لا أعلم إن كان الرجل الذي نتحدث عنه هو نفسه، ولكن في كل الأحوال، الرجل الذي شهدت وفاته لوحدي أوصاني بإنقاذ الكتب التي هنا، وكان يلفظ رمقه الأخير فلم أفهم منه الكثير وما أهمية كل هذا، فهلا فسرت لي ما يجري هنا بحق الله”.

“حسنًا، اسمع يا سيدي”. قال الرجل وقد صرنا في قبوٍ غريب ممتلأ بالكتب أكثر مما فوق “هذا المكان الذي تقف فيه الآن كان مقرًا للمدرسة الشرفية الشافعية، التي أسسها شرف الدين بن العجمي ووقف عليها الكتب النفيسة من كل فن وعلم. لكن المدرسة وكتبها تعرضا لنوازل جليلة، فذهب الكثير من مخزونها في محنة التتار، بما في ذلك الدرج الكبير للواقف والذي يحتوي على فهرسٍ بكل الكتب، ثم تعرضت المكتبة للنهب زمن أبي العلاء المعري في فتنة وقعت أيام عاشوراء، فاجتمعت فئة من شيوخ وتلامذة المدرسة على ضرورة تشكيل لجنة لحماية تراث المدرسة ومخزونها، فإن استمرار النهب والتنكيل بالمعرفة سيورث الجهل في الأجيال القادمة، وكل مُحتل وغاشم أول ما يبدأ فيه من تدميرٍ لهذه الأمة هو مكتباتها وعلمها، فصار واجبًا حماية هذا الإرث كما ينشغل الناس بحماية أبناءهم، ومن هنا تشكلت هذه العصبة من المتفرغين للعلم، الذين تعهدوا بحماية ممتلكات المدرسة وإرثها بأرواحهم وأغلى ما يملكون.

كان تركيز هذه العصبة في البداية هو حماية أصول المدرسة الشرفية فقط، لكن مكتبات حلب تعرضت للنهب والدمار والضياع، وازادت الأمور سوء بقدوم الفرنس والمستشرقين، وكما قال الغزي: “وإننا منذ زمن الصبا حتى الآن نرى تجار الكتب المخطوطة يترددون إلى حلب، ويملئون من مكتباتها الصناديق الكثيرة، عدا ما نراه من سواح الغرب وسماسرة المستشرقين الذين يختطفون الكتب النفيسة الخطية من أيدي طائفة من البسطاء لا يفرقون بين الطين والعجين، فيشترونها منهم بأبخس الأثمان”. وهكذا فُقدت مكتبات جليلة مثل مكتبة بني الشحنة، ومكتبة بني العديم ومكتبة بني الخشاب، وغيرها من مكتبات أهل العلم.

أدركت عصبة الشرفية حينها أن المسؤولية لم تعد خاصة بالحفاظ على أصول المدرسة ونقلها للأجيال القادمة، بل هو صراع معرفي لسرقة ومحو تاريخ وفكر أمة كاملة للتحضير لكتابة موروث جديد، فقرروا توسيع عملهم، وصاروا يسعون في حلب ويشترون المخطوطات قبل أن تباع لغيرهم، حرموا أنفسهم من الزواج ورغد العيش ومشاغل الدنيا، وتفرغوا لهذا الهدف- يجمعون المخطوطات وينسخونها، ويسجلون فهارس مفصلة بها، ويوثقونها في السالنامة، ويدرسون الكتب للراغبين.

وقد أهمِلت المدرسة زهاء مئتي عام، لكن الجماعة استمرت بمهمتها رغم كل النوائب، حتى عظم أمرها وحصلت على تبرعات من أهل الخير المؤمنين بقضيتهم مكنتهم من شراء المخطوطات وتتبع المكتبات، وحظي بعض أفراد الجماعة على كلمة ورأي عند السلاطين والحكام الذين مروا على حلب، حتى استطاعوا عام 1345 ضم نصف المكتبة المنصورية، وبقايا المدرسة الإسماعيلية، وبقايا مكتبة جامع السكاكيني.

ثم عام 1369 أصدر حسني الزعيم مرسومًا يقضي بضم المخطوطات إلى دار الكتب الوطنية، وخشيت الجماعة أن تتعرض المخطوطات للضياع في وضع سياسي غير مستقر، وكتب علماء حلب بتحريض منها اعتراضًا لسامي الحناوي الذي خلف الزعيم، وأعيدت بالفعل المخطوطات إلى المدرسة الشرفية، وأضيف إليها مكتبات المدراس الأحمدية، والعثمانية، والصديقية، والرفاعية، ومكتبة الخسروية التي جُمع فيها أساسًا ما تبقى من مخطوطات عدد من مكتبات المساجد التي تعرض كثير منها للتلف والضياع والنهب، مثل مكتبة التكية المولوية، ومكتبة الجامع الكبير، وفيها ما تبقى من مكتبة بني الجزار وغيرها.

ثم وقع أعظم خطر على هذه المخطوطات حين أتى أمر نقلها إلى مكتبة الأسد عام 1992، ورغم أن الجماعة سلمت الكتب بمحضر استلام يوثق كل الموجودات بالتفصيل، إلا أنهم خشوا تزوير محتواها، أو إخفاء شيء منها، أو تدمير بعضها بدعوى تعرضه لحادث.

لكن غالب محتويات المكتبة أعيدت لبيتها عندما اختيرت حلب عاصمة للثقافة الإسلامية، وبقيت هذه المكتبة وطلاب العلم فيها شوكة في حلق أي تغيير فكري ولعب في تراث الأمة حتى يومنا هذا، حيث صارت الفرصة مواتية لتدمير المكتبة ومحو أي أثر لها بإخفاء حفاظها. الشيخ الذي كان معك في الزنزانة أحد اثنين فقط بقيا من الجماعة التي تحفظ هذه المكتبة، قتلوه، وبقيت أنا- الأعمى الذي استخفوا به فتركوه ليدمر نفسه لوحده.

هل عرفت لماذا أنت هنا الآن؟”.

“نعم،” أجبت وفي عقلي الكثير من الأسئلة ولكن بدا أن هنالك أمور أهم الآن من الاستيعاب الكامل “ماذا أستطيع أن أفعل؟”

“يجب أن ننقل هذه الكتب من هنا بالطبع. ما لم يدمره تيمور سيُدمره أشباهنا”.

“لكنني لا أستطيع فعل ذلك لوحدي، هنالك آلف المخطوطات هنا عدا عن الكتب، ولا أعرف أين سآخذها. يجب أن أذهب وآتي بالمزيد من الرجال”.

“نعم اذهب” قال الرجل ومشى بسرعة، وكأنه يحفظ طريقه، اتجاه خزانة مغلقة بإحكام وكأنها خزينة مصرف، وأخرج كتابًا ناولني إياه، مكتوب عليه بخط اليد: المقدمة السنية للصفدي “خذ معك هذا الكتاب، ولا تتأخر”.

وبالفعل ذهبت، وجلست مع قائد الكتيبة وحاولت إقناعه بضرورة العودة وإخراج الكتب. لم يرى القائد جدوى في إرسال رجاله لجلب بعض الكتب بينما الجبهات مشتعلة ويحتاج كل القوة التي يستطيع التوصل إليها. استلزم الأمر الكثير من التفاوض والإقناع؛ أريته المخطوط الذي سلمنا إياه الرجل وحكيت له قصته، في النهاية اقتنع، وقررنا نقل المحتويات إلى قبو مصرف حيث يكون خطر القصف أقل.

وبالفعل لم ننته من نقل جل مقتنيات المكتبة حتى هدمت مئذنة الجامع الأموي في حدث هز العالم، لكن ما لم يسمعه كثيرون هو هدم صرح لا يقل أهمية، حيث قصفت وأحرقت المكتبة بما فيها من مخطوطات وأدوات فلكية تاريخية، ولوحات، وآلاف الكتب التي لم يسعفنا نقلها.

كان الشيخ الأعمى لا يترك الكتب، وعندما سمع صوت القصف، حتى قبل أن نعرف تفاصيل ما جرى، راح يأن بحرقة دون دموع، عندها فقط تذكرت شيئًا مهمًا، وركضت إليه.

“أعذرني يا شيخ، لكني نسيت أمرًا مهمًا في خضم هول وسرعة كل ما يجرى، وها هي ذي الفاجعة مرة أخرى تذكرني بما نسيت” ناشدته متوترًا “أرجوك أخبرني، في آخر كلماته، شدد الشيخ في الزنزانة على كتاب أو مجلد جامع، هو أهم ما في هذه المكتبة، لكنني لم أفهم كلماته بدقة ولم يسعفني أن أسألك، ووالله إني لأخشى أننا نسيناه خلفنا ولم نأت به هنا… سامحني أرجوك”. ورحت أتضرع إليه وأبكي معه، فطبطب على ظهري وقال بهدوء: “اطمئن، إنه موجود”.

لم نبق في ذلك المكان طويلاً، ونقلنا محتويات المكتبة مرة أخرى قبل أن يتعرض المصرف هو الآخر للقصف، في إصرار واضح على محو هذا التراث. ولكن رغم ما ضاع واحترق، وما سرق فيما بعض ونقل للخارج، بقي الأثر الأهم من هذه المكتبة…

ذهبت أنا والشيخ كلٌ منا في طريقه بعد أن وفيت بوصيتي. بعد سنوات وجدته في أحد المساجد وهو يلقي درسًا على حلقة من طلابٍ التفوا حوله. اقتربت منهم بهدوء وجلست في طرف الحلقة اُنصت للشيخ، فوجدته يسمعهم: “ولقد تصدت طائفة من السلف الكرام، ممن كساهم الله تعالى جلابيب الفهم والإفهام، ومكنهم من انتقاد الألفاظ الفصيحة المؤسسة على المعاني الصحيحة، وأقدرهم على الحفظ بالحفاظ من المتون والألفاظ، إلى جمع سنن من سنن سيد المرسلين هادية إلى طرائق شرائع الدين، وتدوين ما تفرق منها في أقطار بلاد المسلمين، بتفرق الصحابة والتابعين الحاملين وبذلك حفظت السنن، وحفظ لها السنن، وسلمت من زيغ المبتدعين، وتحريف الجهلة المدعين…”.

وكان ذلك من كتاب عمدة القاري شرح صحيح البخاري، أحد المخطوطات التي استطعنا تجنيبها نيران الجهل. خطر لي خاطر حينها، فانتظرت الشيخ حتى فرغ من تسميعه، وذهبت إليه. سلمت عليه وتداركنا ما فاتنا من أخبار بعضنا، ثم سألته: “يا سيدي، أتذكر الكتاب الجامع الذي أوصاني به شيخك فوق كل الكتب والمخطوطات، أكان جامعًا من حبرٍ وورق، أم من لحمٍ ودم؟”.

فابتسم الشيخ وقال: “بل التالي”.