التصنيفات
أدب روايات

فرانكنشتاين

عن أول رواية خيال علمي

أكثر ما يلفت الانتباه في الرواية القوطية المثيرة التي كتبتها ماري شيلي، وهي في التاسعة عشرة من العمر، هو الوله الثقافي المستمر بها منذ ما يقرب من مئتي عام. هل هناك أي شخص، سواء كان قارئًا مطلعاً أو لا يقرأ بتاتًا، لم يسمع بفرانكشتاين، أو بالأحرى ما صنعه الوعي الجماعي والثقافة الشعبية من رواية شيلي؟

يفكر غالبية الناس على الفور في الوحش الذي لم يُذكر اسمه، وليس بصانعه فيكتور فرانكنشتاين، ويربطون بشكل لا واعي بين المخلوق وخالقه الذي من الصعب تذكره. يستمر فرانكشتاين في السيطرة على تفكيرنا حتى لو لم نكن على دراية بنموذج ’شيلي الأولي، والفضل في ذلك لأصالة شيلي وعبقريتها.

نُشرت الرواية بشكل مجهول عام 1818، وعلى الفور تركت أثرًا من الاستغراب والمفاجأة. وصفتها مجلة أدنبرة في وقتها: “ليست قصة وحش معتادة، ومع ذلك، مثل معظم القصص الخيالية في هذا العصر، فإن لها جو من الواقعية من خلال ارتباطها بالمشاريع السائدة وعواطف العصر”. أعاد فرانكشتاين تنشيط المسيرة المتعثرة للرواية القوطية عبر إضافة جوانب التكنولوجيا إلى قصة فاوست، مما حولها إلى أول رواية خيال علمي. وأصبحت الأسطورة النموذجية للعلماء الذين يخلقون الوحوش، واستمرت منذ ذلك الحين.

لكن كيف يمكن لمثل هذه الأسطورة القوية والأصيلة أن تكون من بنات أفكار مراهق لم ينشر أعمالاً من قبل؟ افترض العديد من معاصري ماري شيلي أن الرواية كانت من عمل زوجها الأكثر تمرسًا: بيرسي بيش شيلي. حتى بعد أن أصبحت ماري تُعرف كمؤلفة، وجد البعض عبقرية الرواية في تحرير بيرسي شيلي لها. في الحقيقة، لطالما طغت سمعت زوجها الشاعر، ووالديها؛ الفيلسوف والروائي الراديكالي ويليام جودوين والمنظرة الرائدة في مجال حقوق المرأة ماري ولستونكرافت، على اسم ماري. فقط في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي مع ظهور النقد النسوي، ساعدت إعادة التقييم في إعادة تركيز الانتباه على عبقرية ماري شيلي ومساهمتها الأدبية والفكرية الرائعة. صارت رواية فرانكشتاين الرواية الإنجليزية الرومانسية الحاسمة، وقد وصفها الناقد ج. بول هانترز بأنها: “ضرورية للقارئ الذي يود أن يفهم القرن التاسع عشر وصنع الوعي الحديث”. واعترف بها كاستكشاف معقد ومتطور لبعض القضايا المركزية التي لا تزال تطارد البشرية.

ظهر فرانكشتاين بالصدفة خلال إحدى أشهر الحفلات في تاريخ الأدب. بعد أن أرهقهما الاضطراب الناجم عن فضيحة علاقتهما (حيث كان بيرسي شيلي متزوجًا بالفعل عندما بدأت علاقته بماري)، ذهب الزوجان مع ابنهما الرضيع وأخت ماري غير الشقيقة كلير كليرمونت في رحلة إلى سويسرا عام 1816. على شاطئ بحيرة بالقرب من جنيف التقى بيرسي شيلي ببايرون للمرة الأولى. تعطلت أنشطتهم في الهواء الطلق بسبب المطر، مما أجبر المجموعة الصغيرة على تسلية أنفسهم في الداخل عبر قراءة قصص الأشباح. اقتُرح إقامة مسابقة قصة أشباح، كل منهم يؤلف حكايته الخاصة عن الرعب الخارق. كما ذكرت ماري شيلي لاحقًا في مقدمتها لطبعة 1831 من فرانكنشتاين: “شغلت نفسي بالتفكير في قصة لمنافسة أولئك الذين شجعونا على هذه المهمة. واحدة كفيلة بأن تخاطب المخاوف الغامضة في طبيعتنا، وتوقظ الرعب المهول- قصة تجعل القارئ يخشى النظر حوله، وتجمد الدم، وتسرع ضربات القلب”. وتذكرت كإلهام محادثة جرت مؤخرًا بين شيلي وبايرون حول “طبيعة مبدأ الحياة، وما إذا كان هناك أي احتمال لاكتشافه ونقله”. بعد المناقشة، عاشت ماري كابوسًا أو حلم يقظة حيث “رأيت طالب الفنون التطبيقية الشاحب راكعًا بجانب الشيء الذي شكله. رأيت الشبح البشع لرجل مستلق، تظهر علامات الحياة عليه بعد تشغيل محرك قوي، ويتحرك بحركة مضطربة ونصف حيوية. يجب أن يكون الأمر مخيفًا؛ لأن تأثير أي مسعى بشري للسخرية من الآلية المهولة لخالق العالم سيكون أمرًا مخيفًا للغاية”. أصبحت رؤية ماري شيلي المرعبة عن الحياة العلمية “ذريتها البشعة” في البداية كقصة قصيرة قدمتها كمساهمة في مسابقة قصص الأشباح، وفي العام التالي توسعت فيها وظهرت رواية فرانكشتاين، أو بروميثيوس الحديث.

أولئك الذين جاءت معرفتهم بفرانكشتاين فقط من الثقافة الشعبية وليسوا على دراية برواية شيلي، غالبًا ما يصدمون بإطارها السردي المفصل عند الاطلاع عليها. مثل الرواية الإنجليزي القوطية الأخرى: “مرتفعات ويذرينغ” لإميلي برونيتي، فإن رواية فرانكشتاين هي تصميم معقد للروايات التي يقدم فيها العديد من الرواة وجهات نظرهم، بما في ذلك الخالق والمخلوق. مما يثير التساؤل حول أي سرد هو الحقيقي ومن هو البطل ومن الشرير. راوي الإطار العام هو المستكشف الإنجليزي روبرت والتون الذي يُبلغ أخته عن تقدمه في القطب الشمالي، ويعمل كموثق صحفي يربط القارئ بالواقع بعيدًا عن وجهة نظر كل من شخصيات الرواية. يشارك والتون أيضًا علاقة مزاجية مع كل من فيكتور فرانكشتاين، كباحث فاوستي آخر يسعى نحو علوم إلهية، ومع الوحش في عزلته الوحيدة. بعد أن لمح والتون وطاقمه لأول مرة على حقل جليدي مهجور مزلقة كلاب يقودها رجل ضخم مشوه، يواجهون مطارده فيكتور فرانكشتاين، الذي يروي قصة خلق الوحش والعواقب المروعة لهذه العملية.

على عكس العديد من إصدارات الخيال العلمي لفرانكشتاين، تمنح رواية ماري شيلي للوحش كلامًا واضحًا، ويحكي قصة ما حدث بعد مغادرة إنغولشتات، فبعد أن أرعب كل من قابله، يأخذ المخلوق في النهاية مسكنًا حيث يتعلم طرق الجنس البشري من خلال مراقبة الأكواخ سراً. بعد مساعدتهم خلسة في أعمالهم، يتوق المخلوق إلى الرفقة والمودة، ويظهر نفسه للعائلة التي لا تتقبله. فينطلق في حملة انتقام من الإنسانية بشكل عام ومن خالقه بشكل خاص. لوقف حملته المميتة، يطلب المخلوق من فيكتور أن يصنع له رفيقة، واعدًا بالذهاب معها إلى غابات أمريكا الجنوبية وعدم إزعاج البشرية مرة أخرى. يوافق فيكتور على مضض ويذهب لإكمال عمله. وهو على وشك بعث الحياة في مخلوقه الثاني، يشعر فيكتور بالرعب من فكرة أنه سيجعل سلالة جديدة من الوحوش أمرًا ممكنًا ويدمر عمله. يسعى المخلوق الغاضب للانتقام، أولاً بقتل أفضل أصدقاء فيكتور، ثم بتخريب زفافه. هنا يصبح المطارد مطاردًا، ويتبع فيكتور خليقه في مجاهل القطب الشمالي، عازمًا على تدميره.

تتعلق رسالة والتون النهائية إلى أخته بقراره بالعودة من سعيه إلى المجهول من أجل الأمان والزمالة. إنه قرار يعكس نصيحة فيكتور المحتضر، الذي يحث والتون في كلماته النهائية على “البحث عن السعادة في الهدوء، وتجنب الطموح، حتى لو كان مجرد طموح بريء للتميز في مجال العلم والاكتشافات. لكن لماذا أقول هذا؟ لقد دمرت نفسي ساعيًا وراء هذه الطموحات، بينما قد ينجح غيري”. تشير ملاحظات فيكتور المستمرة عن الشفقة على الذات في اعترافه إلى أنه لم يتعلم الكثير من محنته أو عن ذنبه في الفظائع التي أطلق العنان لها. هذا هو موضوع مناجاة المخلوق النهائية وهو يزور والتون وجثة خالقه. يجادل بأن جريمة فيكتور أكبر من جرائمه لأن فيكتور صنع مخلوقًا مجبرًا على الوجود بدون حب أو صداقة، ثم تنازل عن مسؤوليته عن أفعاله، ويسأل الوحش والتون: “هل أنا المجرم الوحيد عندما أخطأ كل البشر في حقي؟” يحقق الوحش هنا درجة من الكرامة المأساوية التي تعقد أي تبسيط أخلاقي.

يفرض فرانكشتاين مثل هذه القبضة القوية والمثيرة للاهتمام على الخيال لأنه يعمل على العديد من المستويات التفسيرية المختلفة. بالإضافة إلى جاذبيتها باعتبارها حكاية رعب ساحرة، فهي أسطورة عن الغطرسة التكنولوجية التي تضفي الطابع الدرامي على ما يحدث عندما ينافس الإنسان قوانين الرب والطبيعة. قصة فيكتور هي الحكاية التحذيرية للغرو الغير المضبوط الذي يكون دافعه السيطرة والقوة مدمرًا الذات في نهاية المطاف. على مستوى آخر، فإن استكشاف الخلق نفسه، سواء الولادة الجسدية أو الفعل الإبداعي، يطرح أسئلة رائعة عن التبعية والمسؤولية. على المستوى النفسي العميق، قد يمثل فرانكشتاين ووحشه جوانب مزدوجة من كل نفساني ممزق، حيث يقوم الوحش بتفعيل الرغبات القاتلة التي يقمعها فيكتور التقليدي. تتعامل الرواية أيضًا مع خطيئة المجتمع في الابتعاد عن الجوانب المزعجة للطبيعة البشرية التي تطلب منا إعادة تعريف مفهومنا للوحشية، وكيف تدفع ردود أفعالنا وأحكامنا المسبقة المنبوذين من المجتمع لارتكاب أفعال انتقامية ضده. يحفز فرانكشتاين العديد من الردود بحيث من الواضح أن الرواية هي وسيلة قوية لاستكشاف الطبيعة البشرية والعالم الحديث الآن كما كانت في لحظة كتابتها قبل قرنين. مع ذلك، حتى تاريخ كتابة هذا المنشور لم تتوفر ترجمة عربية كاملة للرواية الأصلية، والكثير من الأوساط الثقافية العربية لا تأخذها على محمل الجد رغم أهميتها الفارقة في تاريخ الأدب.


تقييمنا: قراءة أساسية في الرواية