كُتبت سير متعددة حول حياة ريتشارد فرانسيس بيرتون، الضابط العسكري البريطاني والجاسوس واللغوي الموهوب. وظهر، كما لو أنه العميل جيمس بوند، في “العالم المفقود” لآرثر كونان دويل، وفي “حجر القمر” لويكي كولينز Wilkie Collins، الذي يصفه بأنه ” توغل متخفيًا حيث لم تطأ قدم أي أوروبي من قبل”.
لكن السير حوله ذات آراء متضاربة عن دوافعه وحسن شخصيته، وتترك بيرتون دائمًا في النهاية لغزًا. ربما يكون من الأفضل إذًا اللجوء إلى رواية خيالية حول ثلاثٍ من أهم محطات مغامراته للمساعدة في تأطير جوانب حياته. وهذا ما يفعله ترويانوف بالضبط في “جامع العوالم”: فهو يقدم سياقًا وخلفيات تاريخية، مليئة بشخصيات من الحياة الواقعية، ويحول حياة بيرتون التي لا تصدق إلى خيال يمكن استيعابه.
يروي المؤلف قصة بيرتون إلى حد كبير من خلال ملاحظات الآخرين عنه. يمكن أن تكون هذه الرواية متعددة الرواة مربكة في بعض الأحيان، لكنها تقلب الموازين رأساً على عقب بذكاء: فبدلاً من السماح لبورتون بالتفاخر حول حياته الخاصة، فإنها تجعله موضوع الفضول والتساؤل؛ يُصبح المستكشِف هنا هو المُستكشَف. ويرسم المؤلف صورة لبيرتون بضربات عريضة، متجاوزًا أجزاءً كبيرة من حياة بطل الرواية. العديد من المحادثات والأحداث والأفكار والأشخاص من الخيال تمامًا، فيما البعض الآخر واقعي. لا يقدم ترويانوف أي إشارات على أين ينتهي التأريخ ويبدأ الاختراع.
يبدأ ترويانوف بسنوات بيرتون في الهند البريطانية، كما يرويها خادمه نوكارام، الذي استأجر كاتبًا جشعًا ليكتب له رسالة قد تحسن موقعه. تقدم التفاصيل المطروحة ردًا على أسئلة الناسخ الفضولي تصورًا عن بيرتون المنغمس في اللغات والسياسة والألعاب الجنسية والثقافة الهندية في منتصف القرن التاسع عشر.
بعد ذلك، ينطلق بيرتون في زي هندي، وتحت غطاء طبيب ودرويش، إلى الحج في مكة والمدينة المنورة- وهو أمر غير مسموح به بالتأكيد لغير المسلمين. لذلك يتبنى بيرتون العادات والطقوس الإسلامية بشكل مثالي لدرجة قيامه بختان نفسه، ويتمكن في النهاية من إكمال الحج عام 1853 دون أن يكتشفه أحد. يتتبع والي عثماني أنشطته في محاولة لإثبات وجود مخططات لإنجلترا الإمبراطورية في المنطقة؛ وتوفر استجواباته وتقاريره مع القاضي نقطة لقراءة تأملات بيرتون حول رحلة الحج والمشاعر المقدسة.
وأخيرًا، تكاد مغامرة بيرتون الثالثة أن تودي بحياته وهو يحاول استكشاف منبع نهر النيل في قلب افريقيا. ويروي هذه الرحلة، من زنجبار إلى بحيرة تنجانيقا وبحيرة فيكتوريا، سيدي مبارك بُمباي دليل بيرتون.

في ذروة التمدد الفيكتوري، اعتقد الإنجليز أن بإمكانهم فعل أي شيء، والذهاب إلى أي مكان، واكتشاف كل شيء، والحكم في كل مكان. لكن عمل بيرتون لم يكن استكشافيًا فقط؛ كان الدافع هو أن يشهد ويسجل… ليغمر نفسه في عوالم مختلفة ويستعيرها.
بيرتون هو مثال للمسافر الحساس والمنفتح، الذي يتعلم أثناء رحلاته، ويأخذ شيئًا من محيطه، لكنه لا يستقر أبدًا، ولا يكون مخلصًا أبدًا. يلاحظ أحد العثمانيين وهو يفكر في دوافع بيرتون المحتملة للحج بأنه “يؤمن بكل شيء ولا شيء، يمكنه أن يحول نفسه إلى أي حجر كريم”.
تلعب إيزابيل، زوجة بيرتون، دورًا ثانويًا في هذا العرض الخيالي لحياته، ولكنها هي التي جعلت الكتاب ضروريًا بطريقة ما. أنهى بيرتون أيامه كقنصل بريطاني في ترييستي، ممثلًا للتاج الأنجليزي ولكن بعيدًا عن ضجة السياسة قدر الإمكان. عندما توفي عام 1890، قامت أرملته، من أجل حماية “سمعته”، بإحراق أوراقه الخاصة: الترجمات المثيرة والمذكرات والملاحظات والقصائد والرسائل والمخطوطات غير المنشورة عن رحلاته ومذكراته طوال حياته. لقد كان عملاً من أعمال التخريب الأدبي، والذي قوض حتماً كل الجهود اللاحقة في السيرة الذاتية. ضمنت نار إيزابيل عدم إمكانية اكتشاف دواخل المستكشِف.
لسوء الحظ، فإن محاولة ترويانوف للتعويض والكشف عن الحياة الداخلية لبورتون هامدة وبعيدة كل البعد عن شخصية المغامر. لا يصور ترويانوف بطل روايته على أنه أكثر من مجرد رجل إنكليزي غريب الأطوار، بارد عاطفياً، يبحث عن الإثارة الغريبة في مناطق أقل “حضارة” من العالم. كما أن صورة المغامر نظيفة للغاية. وأي شخص مطلع على حياة بيرتون يعرف أنه كان مثال للتعصب والفخر الإنجليزي والتنميط العنصري في عصره. بدلاً من ذلك، يقدم المؤلف نسخة ألطف وأكثر ملائمة لمعايير الصواب السياسي اليوم.
الأمر الأكثر إثارة للإحباط هو أن ترويانوف يضيع فرصًا عدة لإضافة الدراما والجاذبية للسرد. وهكذا، رغم ازدهار حياة بيرتون بالمغامرة والاستكشاف، إلا أن قصته تأتي هنا رتيبة وتائهة في تعدد السرد والأصوات بينما يبقى بطل الرواية في خلفية المشهد.
جمع ترويانوف نفسه العديد من العوالم في طريقه إلى هذه الرواية. ولد في بلغاريا عام 1965، وفر مع أسرته إلى ألمانيا الغربية عندما كان في السادسة من عمره، ثم انتقل للعيش في كينيا. ويصف كتابه “من مومباي إلى مكة” زيارته للأماكن المقدسة الإسلامية والهندوسية. كما نشأ ترويانوف وهو يتحدث البلغارية والإنجليزية، ويكتب باللغة الألمانية.
تقييمنا: ينصح بها لمحبي الروايات التاريخية
كتبها:

الحارث صقر
الرواية في هذه المراجعة Der Weltensammler by Ilija Trojanow
صدرت عن منشورات الجمل بترجمة الصحبي الثابت.