التصنيفات
Non-fiction كتب المساعدة الذاتية

الكدح والمعنى

عن كتاب آلان دو بوتون مباهج وشجون العمل

يفاجأ ’آلان دو بوتون قراءه بكتاب يشبه التحقيقات الصحفية أو كشكول تقرير إخباري مع صور توثيقية، عوضًا عن أسلوبه السلس في المقالات التأملية. مازالت لغته الجزلة، وأسلوبه السهل الجذاب في الكتابة، حاضرًا. لكن يظهر الأمر كما لو كان إعداد التقارير الصحفية هو حلم عمله الضائع بمناسبة أنه يكتب عن العمل.

رغم عنوان الكتاب، يجد ’دو بوتون أشجانًا أكثر من المباهج في الفصول العشرة التي يأخذنا فيها عبر مهن متفرقة لا يربط بينها أي شيء، ما قد يحير القراء بسبب افتقارها إلى التنظيم. لا توجد خطة منهجية للكتاب، ويبدو كتجميع لعدة حلقات ذات موضوع متشابه. يبدو من الصعب معرفة السبب الدقيق لوجود 10 فصول وليس تسعة أو 12 على سبيل المثال.

تبدأ مهمة دو بوتون بزيارة ميناء كئيب على نهر التايمز، حيث ترسو وتبحر سفن شحن لا يلاحظها، رغم كل عظمتها، سوى من يرتبط عملهم مباشرةً بها. ثم يقوم بجولة في مجموعة من المستودعات المظلمة، ويركز على الجوانب العملية لنقل البضائع (معظمها مواد غذائية، وكثير منها قابل للتلف) إلى وجهتها على أرفف السوبر ماركت – وهو إنجاز مذهل لا يدركه المستهلكون عمومًا. في هذا الفصل نفسه، يتتبع المؤلف سمك التونة من مصدره في أعماق المحيط الهندي إلى مائدة عشاء صبي يبلغ من العمر ثماني سنوات في بريستول.

ويأخذنا داخل العديد من الصناعات أيضًا، بما في ذلك المخبز الآلي للبسكويت في بلجيكا والمقر الرئيسي في لندن لواحدة من أكبر شركات المحاسبة في العالم. في فصل آخر، يتتبع المسار (والسحر الهندسي) لخطوط النقل الكهربائي وهي تتحرك من الصرح إلى الصرح عبر الريف الإنجليزي إلى لندن. في أماكن أخرى، يأخذ في الاعتبار علم الصواريخ وصناعة الطيران، مع التركيز دائمًا على السؤال الأهم: “متى تقدم الوظيفة معنى؟”

يعطينا إجابة مختصرة في جملة واحدة: “عندما تسمح لنا بإثارة البهجة أو تقليل المعاناة لدى الآخرين”. إن قول هذا أسهل من فعله بالطبع، ويبدو كنظرة مثالية بشدة. بالنسبة لمُنظر يُحَصل رزقه عن طريق تأليف الكتب وإعطاء المحاضرات، ويُمَكِنه هذا الدخل من السفر والكتابة عن “فن السفر”، من السهل عليه قول ذلك فيما يطر الكثيرون للعمل في وظائف لم يحلموا بها أو لا يحبذونها حتى لأنهم بحاجة لتوفير قوت يومهم وقوت عوائلهم. كما يتغاضى ’دو بوتون عن كل الوظائف التي لا يرغب بها أحد ولكنها ضرورية لسير المجتمع المعاصر، مثل أعمال الصرف الصحي والنظافة والتنقيب وغيرها، لو فكر الجميع بنظرة المؤلف المثالية فمن سيقوم بكل هذه الأعمال؟

وهذه مشكلة الكتاب في الحقيقة- هذه اللهجة المتعالية التي يتحدث بها ’دو بوتون عبر مجمل الكتاب.

من الفصل الأول يصف عمال رصد السفن بطريقة فوقية بأنهم لا يستجيبون في عملهم لحماس ذاتي ولكن يعملون وفق الإحصائيات كالآلات.

وعندما يشرح له مسؤول التصميم في مصنع البسكويت عن وجهة نظره في التصميم، يصفه بكل ثقة بأنه “ذكي بما يكفي لكيلا يؤمن بمزاعمه الخاصة بالأهمية” ويطور تدريجياً فكرة أن الطريقة الحديثة لصنع البسكويت والمقرمشات مليئة بالتعالي بسبب أرباحها الهائلة وخالية من المعنى بسبب وضع المهمة في أيدي تقنيي تغليف البسكويت ومديري المبيعات الإقليميين ومنسقي الإشراف على العلامات التجارية وغيرهم ممن لا يعملون فعليًا في صناعة البسكويت.

كما يصفا المدير الذي يقدم له الغداء في زيارته لأحد مصانع الشركة في بلجيكا: “جعلت سنوات من العمل حول الآلات المزعجة مضيفي أصم قليلًا في أذن واحدة ومنحته عادة الانحناء بشكل غير مريح أثناء المناقشات”. ثم يضيف دي بوتون أن الرجل يشعر بالملل، ربما نتيجة “لاعتزازه الشديد بالمصنع وعماله”. إذا كان دي بوتون قلقًا حقًا من أن العمل اليوم يفتقر إلى المعنى، فمن المؤكد أن هذه فرصة لطرح الأسئلة. لكن هل هو قلق من أن العمل اليوم يفتقر إلى المعنى؟ أو أن بعض الأعمال تعني للآخرين أكثر مما يرى هو؟

اقتباس من مباهج وشجون العمل

في الفصل الثالث إذًا، يفقد دي بوتون بالفعل مسار هدفه النبيل في اكتشاف ما يعطي العمل معنى، وفي أكثر فقرة واعدة من الكتاب، عندما يدعوه مستشار مهني إلى مكتبه لمراقبة جلسة مع عميل، وهي فرصة ممتازة لمراقبة ما يجده الناس غير مرضٍ في وظائفهم وما يتطلعون إليه. ولكن مثل هدفه، ينجرف سرد ’دو بوتون حول مخاوفه بأن شعور المستشار بالتفوق وأسلوبه في تقديم النصائح قد يقوض العملية ويحرم المستشار من التواصل مع عميلته على مستوى نفسي واحد.

في النهاية، يخرب القلق بشأن الوضع الاجتماعي الفصل تمامًا. يلاحظ ’دو بوتون، أن رائحة مكتب المستشار تعبق برائحة الكرنب المسلوق القوية، ما يجده علامة تدل على أن المستشار لا يمكن أن يصنف بشكل آمن ضمن الطبقة المتوسطة العليا، ويشعر أنه من “الغريب والمؤسف في مجتمعنا ترك شيء يغير الحياة المستقبلية، مثل تحديد مهنة الشخص، لمعالجين مهمشين يمارسون تجارتهم من الملاحق”.

هذا حكم سطحي، كما يعترف دي بوتون نفسه. علاوة على ذلك، فهو ابتعاد عن المسؤولية الصحفية التي يكتب المؤلف بأسلوبها هنا. إذا لم يحاول الكاتب التفريق بين فعالية مسعى ما والزخارف الغير مهمة، فمن سيفعل؟ يبدو ’دو بوتون هنا وكأنه يشعر بالغيرة التنافسية لأنه يمتلك مؤسسة تقدم الاستشارات النفسية والمهنية، ويسخر ما استطاع من منافسه. وهكذا يكشف أيضًا في سطر لا ضرورة له أبدًا أن المستشار آنف الذكر يحاول نشر كتاب عن الخيارات المهنية، وبعد مراسلة 12 وكيلًا أدبيًا، يظل الكتاب غير منشور.

رؤية مماثلة تظهر في فصله قبل الأخير عن “ريادة الأعمال”. عندما يحضر الآلاف من المخترعين وعمالقة الأعمال المحتملين معرضًا في شمال غرب لندن، حيث يعرضون أفكارهم أو منتجاتهم المبتكرة، على أمل جذب المستثمرين. ومع ذلك، فإن الحقيقة بشأن فرصهم قاسية. أجرى ’دو بوتون مقابلة مع أحد أصحاب رأس المال الذي أوضح أنه من بين 2000 خطة عمل يتلقاها في أي عام، يطرح 1950 منها، ينظر عن كثب إلى الخمسين الأخيرة، ويستثمر ربما في 10 منها. من بين هؤلاء، بعد خمس سنوات، سينجح اثنان فقط في تحقيق الأرباح. الباقي مجرد جهد ضائع.

يكتب دي بوتون عن رواد الأعمال هؤلاء ببعض السخرية: “يكتب هؤلاء الأشخاص قصصهم في نوع فرعي من الخيال المعاصر، خطة العمل، ويملئونها بشخصيات موهوبة، شخصيات غير قابلة للتصديق بعمق، وهو سهو لن يعاقبوا عليه في نهاية المطاف بنقد لاذع في جريدة ولكن بفقدان أموالهم وحبس الرهن”.

وعندما يقابل مدير شركة محاسبة عملاقة يصفه بأنه متزمت ورسمي جدًا وحذر. ويفوت ’دو بوتون أن المدير ربما تفوق عليه في اللعبة وكل هذا العرض حتى لا يفضح أسرار المهنة، لكن دو بوتون يتسرع ويصفه بأنه على الأغلب وصل إلا هذا المنصب عبر “15 سنة من الابتزاز”. قد يكون ذلك صحيحًا ولكن ليس لدى المؤلف أي دليل، ويحجب هذا التسرع غير المبرر في الحكم أي فرصة للاستفادة من الرجل ومعرفة المسار الحقيقي الذي أوصله إلى هنا.

إذًا فوقية ’دو بوتون تمنعه من إجراء تحليل مفيد لبيئة العمل المعاصرة. يبحث بقناعة ومثالية عن أعمال تُعطي معنى، ولكن بأخذ التعقيد المهني المعاصر في الاعتبار كان الأجدى البحث كيف أن بعض الأشخاص يجدون الرضا والمعنى في عملهم مهما كان، بينما آخرون يجدون الحزن والقلق وعدم الرضا. لماذا عامل صرف صحي، على سبيل المثال، يقضي يومه في القذارة والإرهاق يعود إلى عائلته راضٍ، بينما يدمن مدير يتوفر له كل شيء على المخدرات للهروب من سوداوية حياته؟ سيكون هكذا بحث نفسي عميق ملفتًا للقراءة حقًا.

الغريب أن كتاب “وظائف الهراء” لديفيد غرايبر، مثلاً، قد بحث في هكذا فوارق، وإن لم يكن بشكل مثالي. أما ’دو بوتون الذي اعتدنا منه أعمالًا أعمق يبقى هنا على السطح.

ينجح كتاب “مباهج وشجون العمل”، عبر رحلات آلان دو بوتون وأسلوبه الممتع في الكتابة، كترفيه أكثر منه تحليل لبيئة العمل المعاصرة.


تقييمنا: ليس أفضل أعمال آلان دو بوتون

التصنيف: 3 من أصل 5.

الكتاب في هذه المراجعة: The Pleasures and Sorrows of Work by Alain de Botton

صدر بالعربية عن دار التنوير، ترجمة الحارث النبهان.

:كتبها

رافاييل لايساندر

رافاييل لايساندر