مثل مقالات زادي سميث التي ظهرت في فترة وباء كورونا تفاجأنا الروائية إليف شافاق بكتاب ماثل لا يشبه أعمالها السابقة- مجموعة من المقالات التي تتأمل الوضع الثقافي والسياسي المعاصر وما تخلفه أداوت العصر من كآبة وقلق وفرقة.
“كيف تبقى عاقلاً في عصر الانقسام” هو كتيب أنيق ومباشر من 90 صفحة فقط. على الرغم من شهرة شفق بكونها روائية، إلا أنها أيضًا مُنظرة سياسية حاصلة على تدريب أكاديمي. هنا تجمع بين مهارتين، بالاعتماد على بعض موضوعاتها الخيالية المفضلة (تعقيدات سرد القصص، والهويات المتعددة، وأصوات النساء) لتشريح الغضب والقلق في المجتمع المعاصر، وخيبات الأمل التي يرمز إليها بأسماء وسائل التواصل الاجتماعي. أكثر الشخصيات الملفتة في كتاب “كيف تبقى عاقلاً” هي الفتاة المصرية الصغيرة التي أطلق عليها والداها اسم “فيسبوك” في تلك المرحلة القصيرة والمتفائلة من الربيع العربي. إنها تذكير مؤثر بعصر آخر بدت فيه وسائل التواصل الاجتماعي مستعدة لتقديم عالم جديد وأفضل. من الصعب ألا نتساءل، كما تفعل شفق، ماذا حدث لهذه الطفلة، وكيف ترى خيار والديها.
ينصب الكثير من تركيزها على الانقسامات في النقاش السياسي والثقافي الحديث، والرفض الواضح من جميع الأطراف للاستماع إلى وجهات النظر المعارضة. وهي واضحة جدًا بشأن الضرر الذي يأتي مع استقطاب النقاش في وسائل التواصل الاجتماعي، وليس لديها وقت على الإطلاق للنرجسية الجماعية التي تدعم ثقافة الإلغاء. وترى أيضًا تسلسلًا هامًا بين الاقتتال على تويتر و “الحقائق المتضاربة” التي تجدها في مناقشات التلفزيون أو الراديو أو يوتيوب. وتدعي أن المشاركين (عن حق في كثير من الحالات) “ليسوا هناك للاستماع وليسوا هناك للتعلم. إنهم هناك … ليشجبوا”.
تشرح شافاق أن العلة وراء هذا أنه إذا لم تتمكن من سرد قصتك الخاصة، فلن تكون على استعداد للاستماع إلى قصص الآخرين. أولئك الذين “لم يسمع بهم أحد بشكل منهجي” لن ينخرطوا بشكل منهجي في الأفكار التي تتعارض مع أفكارهم. (لماذا يجب أن يفعلوا ذلك؟) عندما “يشعر عدد متزايد من المواطنين بأنهم “مهملون”، فلا عجب أن النقاش العام يصبح فظًا على نحو متزايد. بذلك تشير ضمنيًا إلى أن العديد من أولئك الذين يشتكون الآن من تراجع حرية التعبير عليهم فقط إلقاء اللوم على أنفسهم.
الأمر، بالطبع، ليس بهذه البساطة. إذا كان (لعكس منطق حجتها) امتلاك امتياز القدرة على سرد قصتك مؤهلاً كافياً لكونك مستمعًا جيدًا ومحاورًا دقيقًا، فيجب أن يكون العديد من أولئك الموجودين في الجبهة الأمامية الحالية للمحافظين من أفضل المستمعين؛ ولكنهم ليسوا كذلك. وقد يهاجم المؤرخون ادعاءاتها المتيقنة بأن “السلطة والثروة” أصبحت الآن “مركزة بشكل متزايد في أيدي قلة قليلة”، أو أن عدد متزايد من المواطنين يشعرون اليوم بالاستبعاد. حاول إخبار هذه الأمور لعبد أو فلاح في القرن السابع عشر؛ رغم كل عيوبها، فقد وزعت المئة عام المنصرمة القوة بشكل لم يسبق أبدًا.

لكن شفق لا تحاول تقديم لمحة عامة عن تاريخ العالم. كما يذكرنا مثال فيسبوك، فهي تشير حقًا إلى التوقعات الثورية التي نشأت ولكن لم تتحقق أبدًا مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي – وإلى خيبات الأمل وكذلك إلى إنجازات القرن الماضي من الديمقراطية الليبرالية الغربية، والتي من الواضح أنها تركت الكثير من بنية السلطة التقليدية سليمة إلى حد ما.
تم الترحيب بوسائل التواصل الاجتماعي باعتبارها توفر منصة يمكن للجميع من خلالها التواصل مع النخبة بشروط متساوية إلى حد ما، والتي من خلالها ستتآكل الفوارق في الوضع والحياة الواقعية. صحيح أنه كانت هناك بعض الأمثلة على ذلك كما نشهد عند انتقاد بعض السياسيين والحشد الشعبي للقضية الفلسطينية وغيره. ولكن، بالنسبة للجزء الأكبر، أكدت وسائل التواصل الاجتماعي رأس المال السياسي والثقافي لأولئك الذين امتلكوها بالفعل. لم يكن مفاجئًا، كما تشير شفق، أن الإنترنت أصبح عالمًا من الفقاعات التي تعزز نفسها بنفسها – لأن النرجسية الجماعية تبدو وكأنها “تعويض عن الإحباطات الشخصية”. وليس من المستغرب أن تكون بشكل متزايد منتدى للصراخ والغضب.
لا تقدم شافاق النصيحة التي يعد بها العنوان، وكلن فقط تأملات سريعة للوضع الاجتماعي-السياسي الراهن، مع ذلك يمكن الاستخلاص من كلامها أنه لكي تبقى عاقلًا في عصر الانقسام، فإن “توجيه الغضب” إلى قوة أكثر هدوءً وإنتاجية هو جزء من الوسيلة. وكذلك الحال مع تبني التركيب المتنوع على البساطة السهلة، والاعتزاز بالهويات المتعددة. بالنسبة إلى شافاق، لا تعتبر الهوية شارة تشير إلى هويتك أو طوابع في جواز سفرك، بل هي عبارة عن مجموعة مرنة من العلاقات، أو القصص التي ترويها عن نفسك، والتي تقربك من – بدلاً من أن تفصلك – عن زملائك على هذا الكوكب.
إذا بدا ذلك بعيد المنال إلى حد ما، أو مثالي بشكل مفرط أو حتى نظري، فذلك لأن بعضًا منه كذلك. وفوق ذلك ليس من الواضح كيف يمكن إضافة تأملات شافاق ونقل القصص من ماضيها -من تعلم الكتابة، بصفتها “ذات اليد اليسرى”، إلى الجنيات غير المرئية في منزل جدتها في أنقرة- إلى وصفة “البقاء عاقلًا”، مهما كان معنى “عاقل”.
كتاب شافاق لم يحل ما وعد به في العنوان، ولم يأتي بجديد لأنها لم تتعمق في دارسة ما تتحدث عنه، بل تعاملت معه بسطحية من بنات أفكارها الخاصة، وهو ما يدفعني للتساؤل هل كان هذا الكتاب سينشر لو لم تكن شافاق مشهورة، أو لماذا لقي كتابها هذا الانتشار، فيما كتب تناقش نفس الموضوع بشكل أعمق ومدروس أكثر لم يسمع بها أحد بتاتًا؟ للمفارقة، هذا ذات الأمر الذي تنتقده شافاق بأن مشاهير المثقفين والساسة يحصلون على صوت بينما غيرهم لا يلقى آذانًا صاغية.
تقييمنا: اقرأه إذا كان لديك وقت.