طوال حياته ولكن بشكل خاص في أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر فصاعدًا، كان الموت أحد هواجس تولستوي. كان لديه تجربة مباشرة مع الموت كجندي في الخدمة العسكرية بين عامي 1854-1855، وشهد مذبحة حرب القرم، ويتذكر بوضوح الموت المؤلم لأخيه ديمتري من مرض السل عام 1856 والمشهد المروع لرجل أُعدم بالمقصلة في باريس عام 1857 (كانت هذه التجربة جزئيًا هي التي جعلته من أشد المعارضين لعقوبة الإعدام). من بين أطفاله الثلاثة عشر من زوجته سونيا، مات ما لا يقل عن خمسة قبل بلوغهم العاشرة. لكن في كتاباته ذهب إلى ما وراء أهوال الموت ليفكر في الأسئلة الكبرى التي تطرحها حتمية الموت لفهمنا للحياة نفسها: إذا كان يجب أن نموت، فما الهدف من العيش؟ عُثر على بعض تأملاته التي لا تنسى حول هذا الموضوع في الرواية القصيرة موت إيفان إيليتش وفي مذكرات سيرته الذاتية اعترافات.
من المحتمل أن يكون موت إيفان إيليتش أشهر أعمال ليو تولستوي بعد الحرب والسلام – ولسبب وجيه. إنه أحد أكثر الأعمال الأدبية الجارحة على الإطلاق، وهو نظرة قاسية إلى الهاوية، لا ممثلةً فقط بالموت، ولكن أيضًا الطبيعة البشرية. إنه أحد تلك الأعمال الضرورية: ليس لأن قراءته تعني أنك اطلعت وشاركت بمعلم ثقافي، ولكن لأنك ستفتقد جزءًا من صورة ما يعنيه أن تكون إنسانًا من دونه.
فعل إيفان إيليتش، قاضي المحكمة العليا، كل شيء ليعيش حياة مريحة. حبكة القصة مباشرة لدرجة أنها لا تعطيك وقتًا لتفكر مرتين إن كنت ستقرأها أم لا- تقفز فورًا داخلها. لكن حبكة “موت إيفان إيليتش” ليست المركز. يقوم النص بطرح سؤال، وتحضير الجو للمناقشة حول هذا المصطلح المسمى “الموت”. بعد حادثة تافهة لا يلقي لها المرء أي بال، يبدأ بطل الرواية في مواجهة المشاكل. ينتقل مستوى الألم من كونه مستمرًا إلى لا يطاق، ويبلغ ذروته كلما اقتربت الشخصية من الموت. ومن المثير للاهتمام، على عكس أعماله الأخرى مثل آنا كارنينا، أن تولستوي لا يخوض في تفاصيل شخصية إيليتش. بدلاً من ذلك، جعل إيليتش يشكك في شخصيته. لذلك، ليس لدى القراء شخصية تدعى إيفان إيليتش ولكن حياة وتأملات حولها.

عاش إيليتش حياة مريحة؛ حياة يعتقد أنها جديرة بالعيش، وهو شيء يطمح معظم الناس له. يبدو ذلك واضحًا في مهنته ومعارفه وإقامته وأسلوب حياته. ولا يدرك عدم جدوى أسلوب الحياة المدروس هذا حتى يبدأ ألمه في إزعاجه. سقوطه رمزي، يبدأ كل شيء عنده في الانهيار. ويظهر هذا في مقطع صغير حيث يدرك إيليتش بعد بعض التأمل:
“يبدو الأمر كما لو كنت أهبط منحدرًا باطراد بينما كنت أتخيل أنني أصعد. هذا بالضبط ما حدث. كنت أصعد بالفعل في نظر الرأي العام، ولكن بنفس القدر، كانت الحياة تنزلق بعيدًا عني. الآن ذهب كل شيء وكل ما أستطيع أن أفعله هو الموت!”
أما بالنسبة لمعظم عائلته وزملائه، فإن وفاته مصدر إزعاج وإحراج؛ يشعرون بالشفقة المتعالية على إيفان، وفي نفس الوقت، مرتاحون لأنهم ليسوا على فراش الموت أنفسهم ولكن أيضًا حزينون من التذكير بفنائهم الذي يستحضره موت إيفان إيليتش. يقول يصفهم بشكل صادم:
“أثار خبر وفاة شخص قريب منهم لدى كل من سمع به، كما هو الحال دائمًا، شعورًا بالبهجة لأنه مات ولم يفعلوا”.
وحده الخادم الشاب، جيراسيم، مع كل الفضائل التي ثمنها تولستوي في الفلاحين، يمكنه النظر في عين الموت والعناية بسيده بإنسانية حقيقية؛ يتعامل بلا خجل مع الفضلات ويسمح للرجل المحتضر بالاستلقاء في وضع يمكن أن يجد فيه بعض الراحة. ذلك أن جيراسيم، على عكس عائلة إيفان، متصالح مع حقيقة موته يومًا ما.
إنه عمل دقيق للغاية، مدمر على بكليته. تأملٌ لا عن الموت فقط ولكن أيضًا على ما يُشكل حيواتنا. يساعد لقاء إيليتش مع الحقيقة دقيقة بدقيقة في “استيقاظه”. مع تقدم الرواية، يطور إيليتش الكراهية للأطباء. إن إجراءاتهم الميكانيكية، ونفس الاستنتاجات، واللامبالاة تجاه المرضى تجعله يتساءل عن فائدتهم في المجتمع، ولكن لاحقًا، يرى توازيًا بين مهنته كقاضي ومهنة الطبيب. لقد واجه أخيرًا الفكرة الخاطئة عن “العدالة” التي كان يتبعها.
لا تحرر فكرة الموت إيليتش من المعاناة الجسدية فحسب، بل تحرره أيضًا من “معاناته الأخلاقية”. الحدث الذي كان يُنظر إليه سابقًا على أنه عذاب يتحول الآن إلى مصدر للتحرر.
الرواية، رغم ما سبق، ليست تعليمية أو واعظة. بدلاً من ذلك، تحاول فتح نقاش مهمة حول الموت. يمر الكثير من الأفراد بأزمة وجودية وعندما يبدؤون برؤية عبث جهودهم تحت وقع حتمية الموت، فإن مثل هذه المناقشات هي التي تجعلهم يرون أن النهاية ذاتها يجب أن تذكرنا بقيمتنا على الأرض وكيف يمكن لكل منا أن يستغل وقتنا لصالحنا ولمصلحة المجتمع.
من المثير أن ننتبه أنه عندما كتب تولستوي موت إيفان إيليتش كان لا يزال في الخمسينيات من عمره؛ وعاش بعدها خمسة وعشرين عامًا أخرى. كان الفناء البشري بالنسبة له، إلى حد كبير، معضلة فلسفية وليس قلقًا شخصيًا. لقد استمتع أيضًا باستكشاف عمليات الاحتضار عن كثب – عندما كان ذلك شيئًا لم يكن بإمكانه ملاحظته إلا من منظور الأحياء. لقد كان تحديًا أثار اهتمامه لدرجة أنه لاحقًا طلب من أصدقائه وأتباعه السؤال عن تجربة الوفاة أثناء مرور الناس بها. “هل يتغير تصور الإنسان للحياة عندما يقترب المرء من النهاية؟” أرادهم أن يستفسروا. “هل يشعر المرء بالتقدم نحو شيء مختلف؟”.
توفي ليو تولستوي بسبب الالتهاب الرئوي، عن عمر يناهز 82 عامًا، في محطة سكة حديد أستابوفو، وهي قرية روسية نائية، في 7 تشرين الثاني 1910. وكان قد غادر منزل عائلته قبل عشرة أيام، في منتصف الليل، تاركًا رسالة باردة لزوجته سونيا التي عانت كثيرًا معه في النهاية، ورد فيها: “أفعل ما يفعله عادة كبار السن في عمري: ترك الحياة الدنيوية لقضاء الأيام الأخيرة من حياتي في عزلة وهدوء”.
ينصح بها بشدة