” حين فقدنا الرضا ” العنوان وحده قادرٌ على تفسير المعنى كلّه، الرواية للكاتب الأمريكي “جون شتاينبك” من أهمّ أدباء القرن العشرين، حائز على جائزة نوبل للأدب 1962، ينحدر من عائلة متواضعة وهو ما ظهر في غالب رواياته، ذاع صيته بعد رواية ” عناقيد الغضب ” حيث صوّرت حال المواطن الأمريكي في فترة الكساد العظيم، أمّا رواية اليوم فتتواجد بثلاث تراجم إحداهما بعنوان “حين فقدنا الرضا ” عن دار المدى وهي أفضلها ، والأخرى بعنوان “شتاء السخط “عن دار الآفاق ، أمّا الأسوأ بعنوان “شتاء الأحزان” ..
“ايثان ألين هاولي ” بطل الرواية ينحدر من أسرةٍ أرستقراطية تمتعت بالسلطة والمال لعقودٍ طويلة عن طريق براعتها في التجارة المشروعة والاستثمارات الموّفقة، لكن وبغمضة عين يخسر والده جلّ أمواله، فينتهي الحال ب إيثان موظفاً في بقالية، سمات شخصية البطل تكاد تكون حقاً من العملة النادرة هذه الأيام، فهو زوجٌ مخلص، وأبٌ متفانٍ، وموظفٌ على أعلى قدرٍ من النزاهة والأمانة، عدا عن أنّه مثقفٌ ويحمل شهادةً جامعيّة..
تقوم حبكة الرواية على الصراع الذي ينشأ في نفس ’ايثان، جرّاء النصائح والكلام من جميع من حوله عن إمكانية كسب المال بشتّى الطرق الأخلاقية واللاأخلاقية، الرواية تعالج صلب صراع النفس الإنسانية بين المحافظة على المبادئ و الغوص في مستنقع الوصولية لتحقيق الغايات، الأصل في بطل الرواية الالتزام بالمبادئ والمحافظة على الصدق والنزاهة ، لكنّ المجتمع الذي يحيط به والذي استبيحت قيمه وصارت المعايير فيه قائمة على المادّة فحسب يدفعه للحاق بالتيار ..
على الرّغم من الرتم البطيء للرواية إلّا أن الغوص في دواخل كلّ شخصيّة يجعلك تسابق الأحداث، محاولاتٌ كثيرة للحفاظ على المبادئ والقيم في ظلّ أوضاع مادية متدنيّة و بيئةٍ طبقية، المختلف في الأمر أنّ إيثان بنفسه كان راضياً قنعاً تكفيه السكينة التي يحملها في قلبه والهدوء الذي يعيشه مع زوجته و أولاده، إلّا أنّ عائلته تشعر دوماً أنها أقلّ قيمة ممن حولهم، وغير قادرين على مواكبة ركب الحياة الماديّة التي تحيط بهم..

ببراعةٍ كبيرة يجسّد لنا ’شتاينبك أنّ غالب شخصيات الرواية كانت تحمل البذرة الطيبة ، إلّا أن المجتمع القائم على الماديّة والفردية هو الذي جعل المحافظة على القيم والأخلاق من صفات البلهاء ، فيرصد لنا التحوّل الذي يعاني منه إيثان بشكلٍ تدريجيٍ منطقي ، حتّى لكأنّه في كلّ خطوة يجد لنفسه المبرر الذي يمنعها من الإحساس بالذنب أو الغوص في ميدان جلد الذات ، فهو في كل مرحلة كان يذكّر نفسه أنّه حين يصل لغايته سيعود الشخص الذي كان عليه ، الأكثر جذباً في سرد شتاينبك هو حوارات إيثان مع نفسه، حيث يفنّد كلّ المخاوف والأفكار التي من الممكن أن تعترضه ، فتقدم الشخصيّة على الفعل المشين بأدنى إحساسٍ بالذنب ، ولعلّ أجملها حديث ايثان كلّ يوم مع كافة أصناف الأطعمة على الأرفف أمامه ، فوحدها كانت تعرف خططه كلها …
أثناء سرد مختلف الأفعال التي يقوم بها البطل في سبيل الحصول على المال والتي تجعل منه غنياً في نهاية المطاف ، لا نشعر أبداً بأي إحساسٍ بالندم داخل نفسه ، بل هو إحساسٌ عارمٌ بالإنجاز الذي حاز على إعجاب زوجته و أبناءه وبيئته ، بيد أنّه يجد نفسه فجأة أمام مرآةٍ عارياً من الأفكار التي أقنع نفسه بها ، حين يعرف أنّ ابنه الذي كان ضمن الفائزين بجائزةٍ في كتابة المقال على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية قد سرق فقراته وأفكاره من خطابات ومقالات قديمة معروفة ، وليس هذا وحسب ، بل إنّه لم يشعر بأي أسى حين واجهه ، ما دام الجميع يفعل ذلك فلا أعتقد أنّه خطاً ، هنا فقط يدرك أيثان أن ليس الجميع يستطيع التخلي عن مبادءه وأخلاقه في سبيل الحياة التي يتمنى ، وأنّه بالذات ليس منهم ، فالثمن الذي دفعه أكبر بكثيرٍ من الغاية التي وصل إليها ..
شخصية ايثان تكاد تلامس كلّ نفس بشرية في صراعها الدائم بين اللحاق بالركب أو المضي في طريق الحق، شخصية لا تستطيع تجاوزها بسهولة، تولّد في نفسك الكثير من التساؤلات وتحمّلك الكثير من الإسقاطات، على غرار شخصيات هاملت وماكبث لشكسبير..
تقيممنا: ينصح به بشدة
متوفر بالعربية عن دار المدى ترجمة سميرة عزام. العنوان الأصلي للكتاب: The Winter of Our Discontent

كتبتها:
ولاء متاعة