عانت أمريكا لسنوات، وما تزال تعاني، مع الانقسام بين المناطق الحضرية والريفية، بينما يُركز الحزبان السياسيان على نشر الأحمر أو الأزرق في مراكز القوة. يتركز النمو الاقتصادي اليوم بشكل صارخ في مناطق حضرية معينة لدرجة أنه أعاد إشعال الجدل القديم حول البقاء مقابل الاستمرار. هل ينبغي تشجيع الشباب والطموحين من البلدات والمدن الصغيرة المتعثرة على السعي وراء ثروتهم في بؤر الديناميكية، أم أن هذا يؤدي فقط إلى تقويض الروابط الأسرية والإسراع بانهيار المناطق الداخلية؟ قد يبدو الأمر مسألة أمريكية داخلية بحتة، ولكن من الممكن تطبيقه اليوم على أي من الدول العربية والحدود الاقتصادية والاجتماعية بين الريف والمدينة.
ملخص العمل هو: كانت تارا الأصغر بين سبعة أفراد من مجتمع مورمون- Mormon في جنوب شرق ولاية أيداهو. نشأ والدها، جين (اسم مستعار)، في مزرعة عند قاعدة الجبل، وهو ابن لأب شديد الغضب، وصعد إلى الجبل مع زوجته التي نشأت في منطقة مجاورة أكثر رقة. دعم جين عائلته المتنامية من خلال بناء الحظائر ومستودعات التبن وتجميع الخردوات المعدنية. فيما استفادت زوجته، فاي (اسم مستعار أيضًا)، من خلط العلاجات العشبية ومن عملها كمساعدة ثم قابلة غير مرخصة.
خلال العشرينات من عمره، تحولت شدة جين الحادة وغير الكاريزمية إلى جنون العظمة المشحون سياسياً، تغذيها ما يدفع القارئ إلى افتراض أنه حالة شديدة من الاضطراب ثنائي القطب. في سن الثلاثين تقريبًا، أخرج أطفاله الأكبر سنًا من المدرسة لحمايتهم من “المتنورين”، وحرم الأطفال الأربعة الأصغر من شهادة الميلاد حتى. تلقى الأطفال تعليمهم، من الناحية النظرية، في المنزل، لكن في الواقع، لم يكن هناك تقريبًا أي تعليم حقيقي يمكن التحدث عنه. تعلموا القراءة من الكتاب المقدس وكتاب مورمون وخطابات مفكري الطائفة الدينين، وكان هناك كتاب علمي وحيد في المنزل للأطفال الصغار. قضا الأطفال الجزء الأكبر من وقتهم في مساعدة والديهم في العمل. انتهت تارا من مساعدة والدتها على مزج العلاجات وتوليد الأطفال وهي بالكاد مراهقة، وانتقلت لفرز الخردة مع والدها، الذي كان لديه عادة مزعجة تتمثل في ضربها بالخردة المعدنية.
يقدم الكتاب، من بين أشياء أخرى، كتالوج لأهوال العمل في هكذا أماكن: أصابع مفقودة، وجروح في الساقين، وجلد محترق بشكل رهيب. ومما زاد الأمور سوءً، رفض الأب السماح لأي من الجرحى بالتماس العناية الطبية خارج خلطات زوجته. كان يقول: “الله وملائكته هنا، يعملون معنا تمامًا.. لن يدعوكِ تتأذين”. عندما أصيبت تارا بالتهاب اللوزتين، أخبرها أن تقف في الخارج وفمها مفتوح حتى تُعمل الشمس سحرها.
وصلت ويستوفر في النهاية إلى جامعة هارفارد للحصول على زمالة ثم عادت إلى كامبريدج لمتابعة الدكتوراه (ندع للقارئ أن يكتشف كيف وصلت من ذلك الوضع إلى هذه المراتب). ومع ذلك فلم تخرج من قشرة ماضيها بالكامل. الادعاءات العائلية المتشابكة للولاء والشعور بالذنب والعار متجذرة في حياتها بعمق. فقط عندما يقع الانفصال النهائي المؤلم عن معظم أفراد عائلتها، يدرك المرء مدى شجاعة هذه المذكرات حقًا. بحلول النهاية، تمكنت ويستوفر بطريقة ما، لا فقط من التقاط نشأتها الاستثنائية التي لا يمكن تجاوزها، ولكن جعل وضعها الحالي يبدو غير استثنائي على الإطلاق، وصدى لحياة العديد من الناس الآخرين. هي شابة أخرى تركت المنزل من أجل التعليم، والآن تنظر إلى العائلة التي تركتها عبر وادٍ أيديولوجي غير مفهوم.

تفحص ويستوفر طفولتها بوضوح لا هوادة فيه، والأكثر إثارة للدهشة، بفضول وحب، حتى بالنسبة لأولئك الذين خذلوها أو ظلموها بشكل خطير. يتحدث هذا كتاب كذلك، جزئيًا، عن كونك غريبًا في أرض غريبة، حيث تفتقد ويستوفر التي تجد نفسها ضائعة في الجامعة منزلها الجبلي. لكن الموضوع الأعمق هنا هو الذاكرة. تحرص ويستوفر على ملاحظة التناقضات بين ذكرياتها وذكريات أقاربها. تكتب: “سيؤمن جزء مني دائمًا أن كلمات والدي يجب أن تكون كلماتي”. إذا كان كتابها بمثابة تحدٍ، أو وسيلة لوضع ذكريات حياتها في نصابها الصحيح، فهو أيضًا محاولة لفهم، بل وحتى احترام، أولئك الذين كان عليها الانفصال عنهم من أجل التحرر.
هذه امرأة تتعامل مع تربية قاسية للغاية، وهي تربية ستستغرق سنوات عديدة حتى تتأقلم معها تمامًا. لقد مرت خلال 33 عامًا أكثر مما مر عليه الكثيرون في مجمل حيواتهم، وتخرجت من مؤسسات مرموقة، وتواصل صعودها في العالم الأكاديمي – كل ذلك دون الحصول على شهادة الثانوية العامة. إنه أمر مثير، ومؤلم.
أسلوب ويستوفر السردي – العرضي والتأملي والمتكرر – لا يحتضن الميلودراما إلى الحد الذي فعلته العديد من كتب المذكرات الكلاسيكية. صوتها ضعيف قليلاً كما لو كان لا يزال في طور البناء. بخلاف ما يشبه دوامة واضحة من المعاناة، لا يشعر المرء بتارا كثيرًا.
يذكرنا الكتاب بأن التعليم لا يعني فقط التعرف على التاريخ والعلوم والفن. إنه يعني تعلم كيفية التفكير نفسه. ولكن بمجرد أن تتعلم المرأة “كيف ترى وتختبر المزيد من الحقائق أكثر من تلك التي أعطاني إياها والدي، وأن استخدم هذه الحقائق لخلق فكري الخاص، فهل من الممكن التوفيق بين ذاتها القديمة والجديدة؟”. تعرف ويستوفر أنه لا توجد إجابة سهلة لهذا السؤال. تسبب تعليمها في الألم والرضا. وأعطاها هذا التعليم قدرتها على تشكيل حياتها ورواية قصتها التي لا تُنسى.
يدور كتاب “متعلمة” حول التجارب، ولكن الأهم من ذلك، أنه يتعلق بتعلم كيفية التعلم وكيفية مواجهة الأفكار العالمية وصقل مهارات التفكير النقدي. استنادًا إلى القصة التي ترويها ويستوفر، لم يكن تعليمها الأساسي متعلقًا بتعلم الحقائق والأفكار بقدر ما كان يتعلق بتمييز الدورات القبيحة من الإساءة التي سمحت بها وعززتها عائلتها وكفاحها للهروب منها. ومن هنا تظهر أهمية الكتاب للقارئ العربي، وأنه ليس قضية أمريكية خاصة عن المورمون أو الريف… إنه قصة ملهمة عن أهمية التعليم ودوره في فتح عيوننا على العلاقات القمعية التي نعيش فيها.
توصيتنا: ينصح به.
الكتاب في هذه المقالة:
Educated by Tara Westover
صدر بالعربية عن دار مدارك للنشر تحت عنوان “المتعلمة” ترجمة خالد الجبيلي