التصنيفات
Non-fiction فلسفة

أنا، ونفسي، والكتابة

عن مقالات ميشيل دي مونتين التي وصفها نيتشه بأنها زادت من بهجة العيش في هذا العالم

بعد خمسة قرون وربع من تأليفها صدرت مؤخرًا الترجمة العربية الأولى (غير الكاملة بعد) لمقالات مونتين.

 الغريب في الأمر أن أحد الكتب المبنية عن المقالات وعن سيرة الكاتب، “كيف تعاش الحياة” لسارة باكويل، سبق ترجمته وإصداره عن نفس الدار. قد يكون الأمر جيدًا بهذه الطريقة، فمن الواضح أن مقالات مونتين الفوضوية غالبًا ما لا تكون سهلة الهضم اليوم ما لم يكن لدى المرء دليل جيد لحياته وبيئته. على الجانب الآخر، لا تغير حياة الكاتب من قيمة عمله، ولا تزيد أو تنقص من فائدته، وقد اشتكى مونتين نفسه من أن “هناك كتبًا عن الكتب أكثر من أي موضوع آخر: كل ما نفعله هو التلميع لبعضنا البعض”. وفي النهاية، إن كنا نعلم فائدة أي عمل، فلماذا لا نقرأه ذاته بدل أن نقرأ عنه؟

عام 1571، عانى ميشيل دي مونتين- Michel de Montaigne من الكآبة بشكل متزايد، وتقاعد في برج المكتبة في ممتلكاته في بيريغورد، وبدأ كتابة مقالاته. كان يبلغ من العمر حينها 38 عامًا، وكان يتابع ممتلكاته من النوافذ ليعرف ما إذا كان رجاله يتهربون من عملهم. نقشت على جدران وعوارض غرفته حوالي 60 من الأقوال المأثورة باليونانية واللاتينية مأخوذة من أقوال الفلاسفة الكبار. قام بشطب البعض منها واستبدالها حسبما قاده مزاجه وقراءاته.

أنتج مونتين في هذا المعتزل ثلاث طبعات مختلفة بشكل ملحوظ من مقالاته التي ازداد عددها بشكل مطرد. وبحلول الوقت الذي كتب فيه ميشيل دي مونتين مقاله “عن التجربة”، وهو الإضافة الأخيرة في كتابه الثالث والأخير من المقالات، كان رجل الدولة الفرنسي قد نجا من تفشي الطاعون، وشهد الانتفاضات السياسية، وموت خمس بنات له، وهجمة أمراض، من الأسنان المتعفنة إلى حصوات الكلى.

المقالات عبارة عن سلسلة من الصور الفكرية التي تنتج معًا سيرة ذاتية للمؤلف. ولكن على عكس تأملات ماركوس أوريليوس، مثلاً، أو اعترافات أوغسطين، والتي تدور حول التعلم والتطور على مدى عمر، فإن مونتين قادر يزودنا بلقطات متغيرة باستمرار لنفسه على مدار السنوات، والتي تقدم مخططًا للعقل وهو ينضج. إنه تحقيق شخصي يمكن للمؤلف من خلاله أن يرسم رؤيته لنفسه: “لا أفكر في إرضاء كبريائي أو كبريائك”، هكذا يخبرنا مونتين في البداية؛ “أنا نفسي موضوع كتابي” مشروع المقالات هو أنه لا يوجد مشروع سوى توثيق العقل الذي يفكر في نفسه.

فلسفة العيش

لم يفكر أحد قبل مونتين -في الأدب الغربي على الأقل- في الكتابة بجدية عن مواضيع متنوعة يبدو أنها غير مهمة مثل “الروائح”، و “التقاليد في ارتداء الملابس”، و”الإبهام” أو “النوم”- كان السائد هو الكتابة عن القصص التوراتية، والأساطير اليونانية، أو مدح الأمراء والملوك. لذلك من المعتبر أن مقالات مونتين التي بلغ عددها 107، وتطول بين عدة مئات من الكلمات و (في حالة واحدة) عدة مئات من الصفحات، وراء اختراع الحداثة في أواخر القرن السادس عشر.

ارتدى مونتين ميدالية حول رقبته كتب عليها: “Que sçay je؟” (ماذا أعرف؟)  ليذكره بمحدودية معرفته. لقد تأثر كثيرًا بالرواقية عندما كان شابًا، ثم بالشكوكية، والأبيقورية وفي النهاية أصبح موقفه الفكري أقرب إلى الإيمانية- fideism، وهو الاعتقاد بأن الإيمان والمنطق منفصلان، وهو موضوع مقاله: “اعتذار لريموند سيبون”.

جادل بعض العلماء بأن مونتين بدأ في كتابة مقالاته لرغبته في أن يصبح رواقيًا بعد هول الحرب الأهلية وفقدان أعز أصدقاءه نتيجة المرض.

بالتأكيد، بالنسبة لمونتين، كما بالنسبة للمفكرين القدامى المفضلين لديه بلوتارخ والرواقي الروماني سينيكا، لم تكن الفلسفة تتعلق فقط ببناء النظم النظرية، وكتابة الكتب والمقالات المعقدة، بل حول أسلوب حياة وطريقة عيش.

 وبالتالي، فإن إحدى سمات المقالات هي نفاذ صبر مونتين من أشكال التحذلق التي ترى التعلم كوسيلة لعزل العلماء عن العالم، بدلاً من الانفتاح عليه، وافتتانه، على النقيض من ذلك، بالحياة اليومية لرجال مثل سقراط وكاتو الأصغر؛ حيث يشير أن حكمتهم ظهرت بشكل رئيسي في الحياة التي عاشوها (لم يكتب أي منهما شيئًا)، حتى اللحظة التي واجه كلاهما الموت بنبل من أجل المبادئ التي آمنا بها. ورأى مونتين أن تحقيق مثل هذا الاتساق “الفلسفي” يتطلب قدرًا أكبر بكثير من التعلم النظري.

في ملاحظة تسبق تفكير فرويد وعلم النفس الحديث، يُنبه مونتين أننا نُفرغ آمالنا ومخاوفنا في الأشياء الخاطئة. دائمًا ما تسكن هذه المشاعر في أشياء لا يمكننا تغييرها حاليًا، وكثيرًا ما تعيق قدرتنا على رؤية المتطلبات المتغيرة للحياة والتعامل معها بطريقة مرنة.

تتضمن الفلسفة، في هذه النظرة الكلاسيكية، إعادة تدريب طرق تفكيرنا ورؤيتنا ووجودنا في العالم. ربما يكون مقال مونتين “التفلسف هو أن تتعلم كيف تموت” هو أوضح مثال على مديونيته لهذه الفكرة القديمة للفلسفة.

مونتين والمنهج

العديد من مقالاته المبكرة أقرب إلى مذكرات وتأملات جافة، وتعطي دروسًا وأمثلة عن الجبن والرحمة والموت والفلسفة، لكنها في مجملها غير أصيلة. مع تقدم المشروع، قرأ مونتين وكتب واسترخى عبر التداوي بالكتابة.

تتجاوز المقالات اللاحقة الرسمية، ليس فقط للتساؤل عن أسس المعرفة البشرية، ولكن لإظهار فضول عميق ونبيه حول كل شيء تقريبًا، بما في ذلك تقلبات مزاجه وتغير أفكاره: “أريد أن أظهر أمزجتي بينما تتطور، واكشف عن كل عنصر أثناء ولادته”. ويتكهن فيما إذا كان يلعب مع قطته أم أنها هي التي تلعب معه.

في مكان آخر، يشارك القارئ ببعض الأفكار التي تأخذ مجرى غير صحي حول كيفية اعتقاده أن المعاقين هم شركاء جنسيون أفضل من أي شخص آخر. وفي تأمل آخر يعطي أدلة على أن الكلاب قد تكون قادرة على التفكير. ويناقش في مقالة مطولة أكل لحوم البشر.

مع نمو المقالات واستمرارها (وبعضها يطول كثيرًا) فإنها تقدم المزيد والمزيد من حياة مونتين: كيف أدت ملامح وجهه البريئة والصادقة إلى إطلاق سراحه على يد مجموعة من الجنود في الحرب الأهلية؛ أنه يحب تفريغ أمعائه بعد النهوض من الفراش مباشرة؛ أنه يفضل السمك على اللحم. أن لديه قضيب صغير.

لا يسعى مونتين عبر كل هذه الأفكار إلى غرس مبادئ جاهزة. من خلال تأملاته المختلطة، والحكايات الطريفة، والاسكتشات الشخصية، لا تقدم المقالات مجموعة واضحة من القيم (على الرغم من أنها تعلق أهمية كبيرة على الرحمة والصداقة) ولكن نمطًا متغيرًا من التفضيلات الشخصية. والتفضيل المحبب لدى مونتين هو المفاجأة، ومتابعة تغير مسار كتاباته هي واحدة من أعظم الملذات التي يمكن أن تقدمها قراءتها. عجلة الجمل لا تتوقف وتتصارع عبر الصفحة، تقاوم الركود في كل منعطف، رافضة الانتظار. يقول عن ذلك: “إن القارئ غير اليقظ هو الذي يفقد موضوعاتي، وليس أنا. في زاوية ما في مكان ما يمكنك دائمًا العثور على كلمة أو كلمتين عن موضوعي، كافية على الرغم من أنها مضغوطة بشدة”.

يطوف مونتين في كتاباته بطريقة استثنائية، لدرجة أنه يمكنك أن تفقد جوهر ما يتحدث عنه وتنجرف في حلم تحفزه إحدى تعليقاته اللماحة؛ ولكن بعد ذلك عادة يعود إلى المكان الذي أتى منه ويسحبك معه. ثم يتوقف فجأة، وأحيانًا في منتصف الفكرة.

هذا جزء كبير من المتعة التي تقدمها المقالات: فهي لن توجه قرائها أو تجبرهم على أن تكون أفكارهم متسقة. وكما قال مونتين في كتابه عن الصلاة: “المفاهيم التي أطرحها ليس لها شكل ولا تصل إلى نتيجة. (مثل أولئك الذين يطرحون الأسئلة للمناقشة في جامعاتنا، فإنني أبحث عن الحقيقة ولا أطرحها)”.

ينتقد الكثيرون مونتين بأنه لا يملك منهجية في عمله، على الرغم من أن “المنهجية” قد تعني تقريبًا ما يشير إليه في خطاب ديكارت حول المنهج: “وهو شكل ثابت من التحقيق يقوم على مجموعة من المبادئ المتسقة داخليًا حول ما هو صحيح”؛ ولكن يمكن أن يعني أيضًا شيئًا أقل جمودًا: “الطريقة التي تفعل الأشياء بها، مظهرة مجموعة معقدة وغير قابلة للتذكر من التصرفات”. يعتبر أسلوب مونتين من النوع الثاني بشكل واضح، ويجعله يظهر -بشكل سطحي على الأقل- على أنه ليس فيلسوفًا.

قد لا نعتبر المقالات عملًا فلسفيًا فقط إذا اعتبرنا أن ما يقال أكثر أهمية بكثير من العملية التي تُوصل إليها، وأن حركة العقل أقل أهمية من الافتراضات المطروحة- وهذا بالتأكيد أمرٌ خاطئ جدًا.

من الواضح أن مونتين قرأ وهو مؤمن بهذا المبدأ أيضًا، حيث يقول: “كل يوم أقضي وقتًا في قراءة أعمال الكُتاب، غير مهتم بتعلمهم، ولا أبحث عن موضوعهم، ولكن كيف يتعاملون معه”. إن الأنماط والحركات الخالية من الأنماط المفاجئة في كتاباته هي التي تجعل المقالات مدروسة ومثيرة للتفكير. لا يهتم بالمفاهيم ولكن بما يسميه تمثيل المقطع، والذي قد يُترجم على أنه استكشاف للوعي الكتابي الذي يتكشف كلمة بكلمة.

وهذا هو سبب اختلافه العميق عن ديكارت ومفهومه التأسيسي عن المنهج. كما أنه يفسر سبب عدم رؤية بعض من مؤرخي الفلسفة لمونتين كشخصية على نفس مستوى ديكارت. حيث صاغ ديكارت مبادئ يمكن من خلالها بناء فهم لما نعرفه وما نحن عليه، يقوم مونتين بدلاً من ذلك بالشك لفترة، ثم يمضي قدمًا في حجته بناءً على تجربة شخصية.

***

في غضون عقد من وفاته، تركت مقالاته أثرها على بيكون وشكسبير. لقد كان بطلاً لرواد حركة التنوير مونتسكيو وديدرو. واعتبره فولتير “الأقل منهجية بين جميع الفلاسفة، ولكنه الأكثر حكمة والأكثر ودية”. فيما قال نيتشه أن مجرد وجود مقالات مونتين زاد من بهجة العيش في هذا العالم.

توصيتنا: يُنصح بقراءته بشدة.

Essays, Michel de Montaigne

صدرت لأول مرة بالعربية عن دار التنوير، ترجمة: جلال الدين سعيد