التصنيفات
قصص قصيرة

ربما غدًا ينقذنا خيالنا

عن مجموعة الشاعرة والكاتبة سكينة حبيب الله القصصية

داخل هذه المجموعة تقدم سُكينة محاولات -وأحلام- أبطالها بالهروب. الهروب الذي برعت في تقديمه كفعل ضروري لاستمرار تمسكهم -تمسكنا- بالحياة. الهروب من مصير مجهول، آلمًا من علاقة مدمرة، حزنًا من ذكرى فقد أليمه، أو حتى من مشاهدة وردة جبلية ترتجف قبل دهسها. الخيط الخفي الذي يربط محاولات الهروب – وقصص المجموعة – هو الأمل، الأمل الذي يكبر ويتغذى في كل قصة بالخيال، ذلك الخيال الذي يؤنس كل أبطالها ويعينهم على تحمل الحياة وبقاءهم فيها… ” كلّ ما عليك فعله، هو أن تمنح قلبكَ للكلمات، كي تنقذَ الكلمات حياتك”.

في قصة “اللطخة” تحاول البطلة الهروب من اللعنة الملتصقة بغرفها نومها الجديدة، ولكنه لا فرار من لعنة الحب. حب صوفيا -صاحبة الغرفة الأصلية- لزوجها وبقاءها وحيدة في بيت يطل على قبره حيث يرقد منذ عشرات السنين -لرغبتها في البقاء معه حتى بعد رحيله- إلى أن ماتت ولم يدر أحد بموتها قرابة الشهر أورث تلك الغرفة لعنة ظلت لصيقة بها. يتوارثها كل يسكن بها… “ماتت نائمة على سريرها -تمامًا كما تمنّت- وتلك البقعة الداكنة على رأس السرير هل لاحظتها؟ إنّها أثر تحلل الجثة”.

في قصة “ربما غدًا” نرى محاولات هروب أَمْ من تصديقها موت صغيرها، فبعد أن فشلت الأدوية في تهدئه الأشياء المشتعلة داخل رأسها، والسيطرة على الخيالات التي تعيش بداخلها، استفرد بها الخيال، ذلك الخيال -وحده- من كان يعينها على تحمل آلم ما تشعر به، ويعيد إليها صغيرها -حتى لو داخل عقلها فقط-، فتوعده مرة بالخروج ” كُف عن البكاء، لن نخرج اليوم. ربما غدًا”، أو تتركه يرسم على حائط المنزل، أو حتى تتركه يلعب بقطع الزجاج. طالما إنه لا يبكي فإنه يكون بخير… “ظهرَ لها طُفلها في قماطٍ قبل سنتين مبتسمًا كأن ملاكًا يلقي في أذنيه النّكات وهو يعطسُ عطستين متتاليتين لم تكتملا ثلاثًا أبدًا. عطستان صغيرتان لطالما شبّهاها بنغمات أجراس الرياح. ظهر لها رضيعها -بالابتسامةِ نفسها- في شهرهِ السادس وهُو في قماطٍ آخر. أبيض هذه المرة. يلفّه بشكلٍ كامل. كما لو شرنقة. “هل سيتحول إلى فراشة؟” مّدت يدها في الفراغ كي تزيحه عن وجهه. “طفلي ليس فراشة، سيختنق بهذا الشكل!”

في قصة ” الوصول إلى الماضي” تتمنى البطلة لو تستطيع الهروب، ليس هروب من جرح اكتشاف الحقيقة فقط، ولكن الهروب من الماضي بأكمله. ذلك الماضي -الحاضر معها دائمًا- الذي يشاركها زوجها، فالزوج غارق في حياته السابقة وماضيه، لا حديث له إلا عن الماضي وعما حدث في الماضي، لا وجود لحاضر أو مستقبل، أو حتى ماضي شخص أخر…”لا يقطع حديثه عن الماضي إلا ليتذكر ماضيًا أخر أبعد وأبعد وأبعد ثم أبعد.” تستمر الحياة على هذا الشكل بينهم إلى أن يمر العمر، حكايات من الماضي من جانبه وصمت وصبر من جانبها. حتى يأتي اليوم الذي تصبح فيه هي أيضًا جزء من الماضي وحان الوقت لكي يحكي عنه…”كنت جالسًا على ضفّة النهر. أصيد البوري. على تلك الربوة الساحرة. حيثُ كنتُ أذهب بشكل دوريّ كلّما اشتقتُ إلى حبيبتي الأولى – وكنت دائم الشوق إليها- وعلى مقربة منّي كانت تجلس زوجتي هادئةً وغير معنية بأي شيء في العالم غيري. المرأةُ التي تزوجتها لأنها صامتة طوال الوقت ولم تقاطع أبداً حديثي. والتي. لم أستطع أبدّا أن أبادلها الحُب”.

في قصة “العمارة الصامتة” يحضر الخيال ليكمل الصورة الناقصة، يرسم ما تعجز الطفلة عن رؤيته، هُنا، حيث يتلخص العالم في تلك النافذة الخشبية التي توجد في طريق عودة الصغيرة إلى البيت بصحبه اخيها ووالدها. وبالرغم من إنها لا ترى من النافذة سوى ما تسمح لها قامتها القصيرة برؤيته، إلا إنها تكمل الصورة بشكل أخر، وبعين ترى بالقلب ما عجز عنه البصر، حينها تشعر بامتلاكها الكون… ” في خيالي، ظلت النافذة ولوقت طويل المكان الذي زرعته يُد إلهية شديدة العناية؛ على الأرض كي تنبعث منه روح الألوان وتعم العالم، مكانًا أشبهه بمصنع عملاق مسؤول عن توزيع اللون وبدقة متناهية على كل شيء في الكون: الأزهار. السحب، شعر جارتنا الأشقر، عيون القطط ولون كدمة ساقي الذي تدرج من الأحمر للأزرق فالأخضر والأصفر.”…. شكلت النافذة العالم لديها، في كل سبت يكون هناك كائنات جديدة وخيال متجدد، تسأل أخيها فيجيبها أيضًا بما يتمنى أن يراه وليس ما يراه، فمرة يوجد تمساح أخضر كبير، ومرة فقمة ودلافين كثيرة مبتسمة، ومرة حورية بحر تلوح لهم من بعيد… “في كل سبت، أنتظر الأطياف وأقفز القفزات نفسها. وأفرح بشدة لا لما رأيت، بل لما تخيلت”….ظل العالم يتشكل لديها بهذا الشكل، حتى جاء اليوم الذي رفعها فيه والدها عاليا ولأول مرة تكون في مواجهة مع النافذة بشكل كامل… “ولأول مرة في مواجهة النافذة كعاشقٍ خجول تشّجع أخيرًا ونظر في وجه محبوبته، وأنا أرى الاكواريوم بذلك الوضوح لم أتمالك نفسي وانخرطتُ في بكاءٍ حارق، بدأت أبكي بشدة. أتحرك في ذاكَ العُلو كسمكة موجة للشاطئ، وأنا أنوح مشيرًة بيدي إلى أخويّ القابعين بصمت في الأسفل وأكرر: “كذّابين كذّابين.. كاينين غير زوج سردينات ليمونيّات..”.

يستمر أبطال المجموعة في محاولاتهم المستمرة، ليس في الهروب فقط، ولكن لفهم الحياة، أنفسهم، لإنقاذ أحبتهم، لتحقيق أحلامهم، أو حتى لإعطاء الخيال فرصة، ليحل محل الواقع ويجعل الغد أكثر احتملاً. للخيال القدرة على إضافة لمسة جمال وإعطاء قبلة الأمل للحياة. تمامًا كما تفعل الكتابة الجميلة.

“شقائق النعمان تتحول إلى فراشات، الفراشات تفتح النافذة وتطير، كل شيء يختفي. كل شيء.هكذا يولد الإنسان من جديد؟شيء ما يدفع الجفن كي ينطبق على الجفن. شيء أشبه بمفعول إبرة البنج في غرفة الولادة.نظرة أخيرة إلى الجرح في المعصم عبر الفجوة الصغيرة المتبقية في العين؛ عملية قيصرية وسيعود كل شيء من البداية، تُفيق، وتجد الرضيع نائمًا جوارها مبتسمًا. كأنه.. لن يموت.”

ربما غدًا، سُكينة حبيب الله

صدرت عن الروافد للنشر والتوزيع

كتبها: محمد هشام

فيسبوك