كهف الأفكار، مثل الدمى الروسية المخبأة داخل بعضها البعض، عبارة عن ألغاز غامضة مخبأة داخل بعضها. رواية جريمة أدبية قادرة على دفع القارئ للتفكر أبعد من لغز القتل، وهي سادس روايات خوسيه كارلوس سوموزا، وتؤسس موضوعها حول حقيقة الكلمات والأفكار والكتابة والقراءة والوجود. موضوع صعب ومعقد، لكن سوموزا يتناوله ببراعة عبر نثر متسق ورشيق.
يتضح طابع الرواية الفلسفي والعميق فورًا من العنوان الذي يشير لقصة أفلاطون الشهيرة عن الكهف، والتي تجادل بأن العالم المادي الذي تدركه حواسنا هو مجرد ظل للأشياء في شكلها “الحقيقي” أو المُثل. ووفقًا لأفلاطون فإن المُثل الحقيقية ليست إلا أفكارًا، لذا لا يمكن إلا لشخص واعٍ ومتعلم أن يدرك الحقيقة.
بهذه الروح، يدعو سوموثا قراء الرواية للدخول إلى عالم متعدد الطبقات من الألغاز والأحاجي، حيث لا يمكننا أبدًا التأكد مما هو “حقيقي”. هذه الرواية هي بالتأكيد تمرين فكري ممتع جدًا للقراءة لسببين:
أولاً، أن الرواية تضعنا في قلب زمن أفلاطون، حوالي 387 قبل الميلاد، الذي نعرف أهميته في تأسيس مسيرة الفلسفة وتجعلنا نحس كأننا نعايش ذلك الزمن بالفعل وحضرنا الأكاديمية صباحًا ومسرحيات يوروبيدس مساءً.
السبب الثاني للمتعة هو البناء الذكي للرواية، والذي يجمع بين زوج من القصص التي تظهر (في البداية) في واقع مختلف. وكل قصة لها طبقات متعددة – كلها تدور حول التكهنات الفلسفية والتجريب الأدبي. كما أن ألغاز الكاتب المخبئة داخل النص نفسه وليس فقط فكرة الرواية تجعلك تقرأ كل سطر وكل كلمة مخافة أن تفقد اللغز.
في النهاية، يترابط كل شيء في تطور مفاجئ سيجعلك ترغب في قراءة الرواية مرة أخرى من البداية، فقط لترى كيف قام سوموثا ببناء مثل هذا العمل الخيالي غير العادي، كما لو أنك تريد أن تكتشف أين خدعتك خفة يد الساحر.
يظهر “كهف الأفكار” كنص إغريقي قديم وغير معروف حيث يناقش دياجوراس، مدرس الأكاديمية، والمحقق الذي عينه، هيراكليس بونتور، مجموعة متنوعة من الموضوعات أثناء استكشافهما المشهد الفلسفي لأثينا؛ ليس فقط زيارة الأكاديمية (حيث يحضران إحدى ندوات أفلاطون)، ولكن أيضًا استكشاف المدراس الفكرية التي عارضت أفكار أفلاطون. مع استمرار التحقيق، يكتشف بونتور ودياجوراس الأنشطة الطقسية لطائفة غامضة كأنها ظاهرة من فلم كوبريك: Eyes Wide Shut تؤمن باستبدال المناقشة العقلانية بالتجربة.
في غضون ذلك، تروي الهوامش حكاية خاصة بها. عندما يعلق المترجم على القصة الأصلية، ويبدأ في الشعور كما لو أن سرد النص الأغريقي يتحدث إليه. كما أنه يعتقد أن “كهف الأفكار” قد تكون “نصًا إيديتيًا” ، يهدف إلى نقل رسالة سرية من خلال الكلمات والعبارات المتكررة.
هل “الرسالة” السرية مجرد نوع من المعلومات المضمنة؟ أم يمكن أن يكون وسيلة لخلق حقائق معينة في ذهن القارئ؟
ربما حتى خارج عقل القارئ. . .
مع تكثيف هذه التكهنات، يسجل المترجم أيضًا حوارًا معقدًا بشكل متزايد مع مونتالو – الذي تبين أنه لا يبحث فقط عن نسخة جديدة من النص القديم، ولكن عن شيء أكثر طموحًا: فهم معناه النهائي.

قراءة كهف الأفكار أمرٌ رائع. تبدأ في متابعة اللغز الذي يبحث فيه هيراكليس بونتور في أثينا القديمة. تدريجيًا ، تلاحظ أن الحواشي السفلية أصبحت أكثر جوهرية، وأن المترجم يبدو أكثر فأكثر كشخصية في حد ذاته. ومنذ أول حاشية تكتشف أن النص ذاته يحتوي على رسائل تحاول أن تسابق المترجم على اكتشافها، مما يجعلك تشارك في عملية حل الجريمة عوضًا عن مشاهدة المحقق وهو يعمل فقط.
تذكرنا الرواية بقصص بورخيس والألغاز التي تحيط بالمخطوطات القديمة، ومثل بورخيس ، يستكشف سوموثا دور اللغة في تصوير الواقع أو خلقه.
“كهف الأفكار” رواية مغرية وآسرة وعميقة فكريًا. يبحر عقل القارئ بحثًا عن الحقيقة جنبًا إلى جنب مع الشخصيات، ويقرأ الكتاب بأكثر الطرق جاذبية وإرضاءً، وهو مزيج ليس من السهل تحقيقه. يتم الكشف عن اللغز في الفصل الأخير، ويبقي سوموثا لنا وحدنا أن نقرر ما يعنيه كل هذا.
تقييمنا: ينصح بها بشدة
كهف الأفكار، خوسيه كارلوس سموثا
ترجمة: مارك جمال. صادرة عن دار التنوير