في هذه المقالة كتاب: الشر السائل، زيجمونت باومان
الشبكة العربية للأبحاث والنشر
ترجمة: حجاج أبوجبر
تقييمنا: ينصح به
يبدو أنّ حيّز الرّماديّة بات فضفاضاً جداً، لم يعد الخير يناطح الشّر بتلك المباشرة والحديّة، بل بات يرتدي وجوهاً كثيرة ويتجلّى بأشكالٍ أبعد ما تكون عن اعتقادنا، يدخل حياتنا يخترقها ويتغلغل فيها فنحسبه طبيعياًّ نتاج فطرتنا الإنسانيّة وليس تطرّفاً عنها.
نقاشٌ شيّق مطوّل بين عالم الاجتماع البولندي الأشهر ” زيجمونت باومان ” و الأستاذ الجامعي ” ليونيداس دونسكيس ” ، يسرد لنا باومان بدايةً تاريخ الشّر في الحياة الانسانيّة من منظورٍ دينيٍ وآخر من منظور مانوي حيث الشّر والخير طرفان دائمي الصراع ، ومن ثمّ يبيّن تأثير طريقة الحكم ، بيد أنّه يرى أنّ النتيجة واحدة ، ففي حين يحاول الحكم القمعي فرض سياساته وتوجهاته وآراءه بالقوّة والقمع ، فإنّ الحكم الديمقراطي يجعلك تنفّذ ما يريد بشكلٍ أسهل وأكثر رقي ، عن طريق السّيطرة على كلّ ما تراه وتقرأه وتسمعه ، فيتكون عندك بالضرورة مايريدون لك أن تقرأ وتسمع و ترى ، لم نعد بحاجة إلى أنظمة قمعيّة لفرض السياسات بالقوّة ، باتت القوّة الناعمة قادرة على إيصالنا لنتيجةٍ أفضل بتعدد إغراءاتها أي أنّ النظام الديمقراطي لا يختلف عن القمعي سوى بالأسلوب .
إنّه كتاب المرحلة ، تحليلٌ سياسي واجتماعي مبسّط لكلّ ماحولنا ، قادرٌ على تفسير كلّ تلك الأسئلة التي حاكت في عقلك دون أن تجد لها أجوبةً واضحة ، يخبرك كيف تستطيع التعامل مع الواقع وفهمه ، أين وصل الشّر من العالم ، كيف خسرنا منظومتنا الأخلاقيّة وتحوّلنا إلى انتقائييّن في التّعامل مع المعاناة الانسانيّة وإدراك الألم ، كيف صنع لنا الإعلام القدوات التي يريدنا أن نتّبعها ووضع لنا معايير للسعادة ، ثم شرّبنا الكثير من مشاهد الحرب وتفاصيل العنف التي سكنت أغلب الشاشات لسنين مضت ، فبات من السهل علينا أن نتقبل هذا العنف اليومي أمام ما نرى من دمويةٍ يوميّة تكاد تفقدنا إنسانيتنا إن لم تكن قد فعلت بعد .
حياة اليوم لم تعد أبيض وأسود لم تعد بسذاجة تلك القصص التي كنّا نقرؤها قبل النوم ، بات من الممكن أن يتحول الأمير النبيل لقاطع طريقٍ ويجد لنفسه آلاف المبررات والحجج ويدافع عنها ، صار الشّر اليوم ناعماً جذاباّ يجيد كسب تعاطف الناس وصنع واجهةٍ برّاقة، يعرف كيف يعيش دور الضحيّة ويقلب الطاولة في النهاية ، لم يعد شراً محضاً ، بل بات من الممكن أن يلبس كثيراً من الوجوه الجيّدة، يساعدك مرة ، يقف إلى جانبك في شدةٍ ما ، يدافع عنك ، ولكن في النهاية يكشف عن وجهه الحقيقي ، الميزان هنا هو الأيام ، إلى أن تكتشف أنّك كنت أمام شيخ المتملقين ، وبكل نباهتك وفطنتك انطلت عليك تمثيلاته.
يتساءل باومان هل الشّر مجبول فينا أم طارئاً على فطرتنا الانسانيّة؟
أم أنّنا تعرضنا طيلة سنواتٍ وسنوات لغسيل دماغٍ تدريجي حتى بتنا نتقبّل كلّ شيء ونجد له المبررات؟ بل هو الإعلام الذي شكّل وعينا الجمعي حتى أصبح يؤثر على مبادئنا، كل ما حولنا أصبح مهيئّاً لجعلنا نفكّر بطريقةٍ واحدة وتصل لنا رسائل متشابهة، ظاهرة الاعلانات التي لا تكاد تدع للعين حيزاً من الفراغ لتراه ، ملايين المدخلات ، جعلت منّا مجرد أدواتٍ للتلقين ، أوعية تملئ ، بكل مافي حولنا من ظلم وقمع و عنف و وحشية .
من الإعلام إلى الانترنت ، حيث يرى باومان أنّ وسائل التواصل الاجتماعي تسعى لتطبيق قيم الشر السائل ، إنّها لا تطلب منك التخلي عن خصوصيتك بل تدعك تفعل ذلك بنفسك ، لم يعد عالم اليوم يحتاج أجهزة استخباراتيّة ، صار الفرد يكشف أسراره بنفسه دون أن يعي ذلك ، في عالم اليوم المسيطر على الاعلام والانترنت مسيطر على كلّ شيء تماماً ليس مجازاّ بما يتضمن عقول الشعوب وتوجهاتهم ، حتى السّلام صار من الممكن أن يلبس ثوب الحرب والعكس صحيح ، لا شيء مضمون ، كلّ شيء متغيّر لحظي ، إنّها مغالطة التعامل مع المضمون على أنّه الجوهر، والتعامل مع الجوهر على أنّه المضمون .
