التصنيفات
فلسفة

المجتمع المفتوح وأعداؤه

عن كتاب كارل بوبر الفارق في تاريخ الفلسفة السياسية


في البداية أحب أن أشير أن الترجمة العربية كانت حرفية بشكل يشتت القارئ، مما اضطرني إلى الاستعانة بالنص الإنجليزي لأستوعب ما يريده الكاتب..

يعد الجزء الأول من الكتاب دفاعًا عن المجتمع المفتوح ضد أنصار المجتمع المغلق من الرجعيين والمعارضين للديمقراطية والعلمانية والممثلة بالمدينة الفاضلة لأفلاطون، بينما في الجزء الثاني يتناول الكاتب انتقاد أعداء المجتمع المفتوح من الماركسيين أنصار الدولة “الفاضلة” الشيوعية الشمولية والحلم ببناء عالم مثالي مساواتي، ومحو كل أثر لهذا العالم (وهو النظير للأفكار الرجعية بحسب بوبر ولا تقل عنها شرراً).

يعارض بوبر الأفكار الرجعية التي تنادي بعودة القبلية والنظام الشمولي والمناداة بترسيخ العبودية ونبذ العقلانية والعلم، وفي دفاعه عن الديمقراطية – وهو يماثل بينها وبين العلمانية واحترام حقوق الإنسان والفردية – يؤكد الكاتب أن الديمقراطية لا تعني الادعاء الساذج بحكم الأكثرية، وإنما مساواة النظم المتعددة أمام القانون. يجعل الأفراد متساوين أمام القانون والرقابة، وهو باختصار تجنب الطغيان الهادف إلى قتل الفردية مع عدم قابلية التغير والتحسن الملازم لحكم الرجل الواحد أو الحزب الواحد أو الأيديولوجية الواحدة.
وفي سياق معارضته للمجتمع المغلق، يضع الكاتب أفلاطون وجمهوريته الفاضلة المثال للرجعية والمجتمع المغلق، إذ تقوم جمهورية أفلاطون الفاضلة على تقسيم طبقي للأفراد مع توزيع مهام بشكل مغلق غير قابل للتعديل، مع ترسيخ العبودية وحرمان الطبقة المتعلمة الحكيمة الفيلسوفة من الملكية الشخصية (كي لا تفسدها الأطماع الشخصية)، كما أنه لا يؤمن بشيوع التعليم، وهذا التقسيم يزعم أنه يتماشى مع الطبيعة ومع ما كان شائعا سابقا في حكم رجل القبيلة لقبيلته مع عدم وجود إمكانية لاختيار المرء لما يريد. يتناول بوبر أفكار أفلاطون ثم يرد عليها، ويعرض تحليلا لأثينا في العهد الديمقراطي، مع شرح لأفكار بعض الفلاسفة والمؤرخين في تلك الفترة (ومنهم سقراط الديمقراطي الناقد لأداء الحكم الديمقراطي في عهده، وهي المغالطة التي وقع بها الكثيرون بحسب بوبر من اعتبار سقراط ضد الديمقراطية) في نظر بوبر تقوم نظرية الدولة الفاضلة على الدعوة إلى مجتمع مثالي في المستقبل أو مجتمع مثالي كان في الماضي، بدعوى “العودة إلى الطبيعة” أو “التقدم نحو عالم الحب والجمال”، كمن يمتلك الداعي إليها مخطط مثالي يريد تطبيقه على أرض الواقع، وهو مليء بأحلام عن الجمال ورومنسيات عن السعادة التي ستتحقق لو تم تطبيق هذا العالم، لكن ما يلبث أن يتحول إلى جحيم يصنعه الإنسان لأخيه الإنسان.


“كلما حاولنا أكثر العودة إلى العصر البطولي للنظام القبلي، وصلنا بتأكيد أكثر إلى محاكم التفتيش، والبوليس السري، وإلى العصابات الإجرامية المغلفة بالرومنسية. وإذا ما بدأنا بطمس العقل والحقيقة، فلا بد أن ننتهي بتحطيم أكثر وحشية وعنف لكل ما هو إنساني.”


أي وفق بوبر، فلتحقيق هذا المجتمع لن يتوانى المثالي عن استخدام أكثر الأساليب بشاعة لتحقيق دولته المزعومة.

والحل بنظر بوبر؟
الهندسة التدريجية، أي التغيير القائم على حل المشاكل الحالية، والقائم على القيام بإصلاحات في المؤسسات، لا التغيير الجذري للمؤسسات الحالية آملين بأن يحمل هذا المجتمع الفاضل حل جميع المشاكل. من الأفضل القيام بتغييرات على صعيد مؤسسات الدولة، كالنظام الصحي والتعليمي ومشكلة البطالة ومشكلة الاكتئاب…إلخ. إذ لن تسبب هذه التغييرات ضررًا دائمًا، وهي قابلة للتعديل بسهولة وأقل مخاطرة. “ومن السهل الوصول إلى اتفاق منطقي حول الشرور المجتمعية ووسائل محاربتها، بخلاف الطريقة الأخرى القائمة على تصور المجتمع الأفضل وطرق تحقيقه”
وعوضًا عن محاولة جعل البشر سعداء، علينا التفكير بجعله أقل تعاسة، فهي الطريق المضمون والأقل مجازفة وعنفاً والأكثر واقعية وعملية.

من الجدير بالذكر أن الكتاب كتب على أعقاب الحرب العالمية الثانية، وبروز الأنظمة الشمولية التي اتسمت بالقبضة العنيفة لأجهزة الأمن تجاه كل من يخالف اتجاه الدولة. فهم هذا الكتاب منوط بفهم الحقبة التي كتب فيها، كما أنه مرتبط بواقع الدول العربية حاليا باختلاف أيديولوجيات الحكومات الحاكمة. وقد ألمح بوبر في كتابه في أكثر من مرة عن ارتباط الشمولية بالعدمية الأخلاقية (فالخير هو ما يكون في مصلحة جماعتي، أو قبيلتي، أو مدينتي) “ومن السهل أن نرى ما تضمنته هذه الأخلاق بالنسبة للعلاقات الدولية…وللدولة الحق ليس فحسب في تعنيف مواطنيها وإنما أيضا أن تهاجم دولا أخرى، بشرط أن تفعل ذلك دون أن تضعف نفسها” .
فالإمبريالية اليوم لا علاقة لها بنظام الحكم الداخلي، وديمقراطية الغرب لم تمنع بعض الدول من ممارسة “سياسة ديمقراطية” على الدول الأخرى، كما استخدمت ذريعة الديمقراطية لتبرير احتلال الشعوب ونهجها. إلا لو انتهج الكاتب بتبني نهج ديمقراطي عالمي كما يتبناه داخلياً، وهو بحد ذاته نوع من الرؤية المثالية المخالفة للواقع.
أسلوب الكاتب منطقي وترتيب أفكاره يشد القارئ، الكتاب هو عرض لأفكار أفلاطون أكثر من مناقشته لها، لأن عرضه بالذات كان نوعا ما مخالفا لما تم الترويج عن أفلاطون وحبه للإنسان، ولو كان أوسع في طرحه وضم شريحة أكثر معاصرة له لكان الكتاب أقوى وأكثر شمولية “لأعداء المجتمع المفتوح” من الرجعيين. لكني أختلف معه بخصوص أن “البؤس في دولة ديمقراطية أفضل من الرفاه في دولة الطغيان”، إلا أن حديثه بالمجمل يشمل الغرب وحسب، والذي يختلف عندما نتكلم عن ديمقراطية وفردية في مجتمعات ليست مهيئة كذلك، وتعد بدائية جدا فيما يتعلق بمبادئ الفردية والحرية والعلم. قد تكون السعادة في بلدان كهذه مرتبطة بالرفاه أكثر من ارتباطها بـ “الحرية” و”الديمقراطية” و”المساواة”.

كتبتها: ساره سعد