تقييمنا: ينصح به، لكن هناك أفضل
في حين يحذر معظم المثقفون من أزمة هوية لدى الشباب العربي والإسلامي، يأخذ أمين معلوف سبيلاً آخر قائلاً أننا، والبشرية عمومًا، مهووسون بمسألة الهوية، مع أن كل شخص، ويضرب في نفسه مثلاً، يمكن أن ينتمي لعدة هويات متناقضة في آن واحد. ويوضح معلوف كيف أن هذا التمسك المتشدد بالهويات هو وسيلة، وأحيانا بروباغندا، لإقصاء الآخر وتهميشه، وما يتبع ذلك من نتائج الإرهاب والمجازر والحروب الطائفية.
يقول معلوف عن الكتاب أنه دراسة، ولكنه في الحقيقة أشبه بنقاش ذكي في مقهى فرنسي، أو تأملات عن الهويات الاجتماعية- وليس الهوية الشخصية، وهو ما وجب توضيحه أيضًا. ومن هنا يبدأ الكتاب في ربعه الأول بداية جيدة في طرح طريقة رؤية جديدة ومنفتحة، لكنه يبتعد عن الموضوع فيما بعد ليناقش الدين والعولمة، ويقصر عن مناقشة جوهر الهوية ومنبعها، الأمر الذي كان سيساعد على فهم مكمن ضرورتها ولماذا نتمسك بها، مما يسهل بدوره في الدعوة للتخلي عنها أو تصحيح تعاملنا معها.
في ثلاثة أرباع الكتاب الباقية يفتح عدة مواضيع متشعبة ثم يقول “لا أود الإسهاب في ذلك” أو “أنهي هذا الاستطراد” دون أن تتم مناقشة أي مسألة بعمق، مع أنه يطرح مواضيع مهمة جدًا، وأفكار ذكية مثل “تأثير الشعوب على الدين بدلاً من تأثير الدين على الشعوب”. وقد يكون هذا الاختصار والسرعة تحديدًا ما يجعل الكتاب سهل القراءة للجميع، لكنه بالتأكيد لا يجعله في مصافي الكتب التي يمكن ان تحدث هزة في الوسط مثل الاستشراق لإدوارد سعيد، أوReasons and Persons by Derek Parfit . فرغم أنه كتب بنية الخير لكل البشر ومنطق سليم، إلا أنه غير متعمق وشامل في دراسته، بحيث يكشف لنا جميع خبايا القضية أو يساعدنا على فهمها، ومن ثم متسرع في إعطاء حلوله.
أحد الأمور المهمة التي ترد في الكتاب هي رؤية معلوف للهوية على أنها تسخير لخلق شعور زائف بالذات. وتفعل ذلك بإعلان أن أحد ولاءاتنا الكثيرة (الدين، اللغة، العرق، أو الوطن) هي ما نحن عليه حقًا. لا يتم تحديد هذا الولاء الأساسي من خلال الترابط ولكن عادة فيما يتعلق بالولاء الأكثر تعرضًا للهجوم، وهي نقطة مهمة جدًا ينتبه إليها معلوف، وتفسر كيف أن المزيد من الضغط على الأقليات للتخلي عن ولاءها يدفعها للمزيد من التمسك به وربما حتى التطرف.
بالتالي فإن هويتنا غالبًا ما تتشكل فيما يتعلق بأعدائنا: المجموعات التي نخافها، أو نكرهها، أو الأهم من ذلك، نستاء منها. إحدى القوى الدافعة في التاريخ هي، برؤية معلوف، الرغبة في الانتصار على جرح نرجسي. بمجرد أن تشعر المجموعة بالإهانة، من الممكن أن يقوم المحرضون ويقنعوها بأن عليهم أن يفهموا أنفسهم حول هذا الإذلال. بهذه الطريقة، يتم قمع العديد من الولاءات الأخرى للمجموعة، والطريق مفتوح أمام العنف المميت.
أما أحد التحليلات الغير متعمقة هو مقارنته فيما إذا كان الإسلام أو المسيحية هما حقًا متسامحين أو غير متسامحين. ويجادل أنه خلال معظم تاريخها، كانت المسيحية غير متسامحة بشكل لافت. خلال فترة التفوق السياسي والثقافي، كان الإسلام متسامحًا بشكل ملحوظ. السؤال الذي يهم معلوف هو لماذا أسس الغرب المسيحي، الذي لديه تقاليد التعصب، مجتمعات تحترم حرية التعبير، في حين أن العالم الإسلامي، الذي لديه تقاليد التسامح، هو الآن معقل التعصب. الأمر الذي يخطأ به معلوف هنا رؤيته بأن الغرب “طور” الدين المسيحي ليحترم حريات التعبير، ولكن في الحقيقة ما جرى فعلا هو تخلي الغرب عن الدين المسيحي تمامًا، وبناء دول علمانية ذات دستور أخلاقي علماني أيضًا وليس مسيحي، وهنا حاولت الكنيسة، للحفاظ على مريديها، مواكبة روح العصر والدعوات الحقوقية والعلمية الحديثة.
إن محاولة تطوير الدين في ظل وجود نصوص قطعية غير ممكن، فكما يمكن لمعلوف أن يفسر “لا تقتل” على أنها ضد عقوبة الإعدام يمكن لغيره أن يفسر آية أخرى على أنها حرب ربانية مقدسة، ومن هنا مازال يظهر متشددون مسيحيون يرتكبون المجازر باسم الرب عند شعورهم بتهديد هويتهم الدينية أو العرقية بمقدم اللاجئين.
والحل المتسرع الذي بناه على ذلك هو دعوته للتماهي مع الهوية الغربية، لأن الغرب ولسبب ما ولظروف أتت في صالحهم، حققوا تطورًا لم تحققه لا الأزتك ولا الصين ولا العرب لا أي أمة أخرى؛ فعلم النفس، والطب الحديث، والهواتف والحواسيب والسيارات هي في النهاية منتجات غربية.
من الواضح أن الكثير من المفكرين، منهم غربيون أنفسهم، سيعارضون معلوف بأن الغرب، نعم، حقق التطور التكنولوجي والعلمي، ولكن هنالك الكثير من علامات الاستفهام حول نجاح الديمقراطية في شكلها الحالي، وأنظمة العيش، والتكافل، والأنظمة المستدامة…الخ. يناقد معلوف هنا نفسه، فبعد دعوته لشمولية الهوية، يلمح لتفوق إحداها وضرورة تطبيقها على الكل، مع تناسي أن الغرب ليس تجربة أو هوية واحدة، والنجاح الإسكندنافي مختلف تمامًا عن الفرنسي، والاشتراكية ليست كالرأسمالية مع أن كليهما طورا في الغرب؛ عدا إن اخذنا بالطبع التفوق الصيني القادم. لذلك، ما نحتاجه فعلاً هو هوية إنسانية كونية غير مرتبطة بتاريخ أحد ولا نجاحاته، بل نابعة من إدراك حقيقي أن تاريخ البشرية، بمصائبه وإنجازاته، ومستقبلها مشترك.
يبقى الكتاب مع ذلك نظرة مهمة وفريدة -وقراءة ممتعة- عن الهوية وسط نداءات التمسك بقشور قومية وعرقية تعزلنا عن الآخر وتضعنا في حرب معه لتحقيق غايات سياسية ستؤدي في النهاية لدمار الجميع.