تقييمنا: قراءة أساسية
رواية معلوف التاريخية جميلة واضحة بطريقة جذابة، ومع أنها تغطي فترة زمنية طويلة ومعقدة إلى أنها مختصرة بشكل مفيد، ربما لو كتبها إيغلدون لاستغرقت خمس مجلدات أو أكثر، لكن معلوف لا يركز على شخصي واحدة بشكل مكثف، بل على مجمل صراع الأمة وهو ما يجعلها مميزة بشكل خاص وهو ما سنرجع له لاحقًا. بما أن الرواية واضحة الهدف والسرد، سنذهب فورًا للفصل الأخير عن تعقيب معلوف في الدروس المستفادة من سرد الأحداث الصليبية وما تبعها.
يذكر معلوف من بين أسباب خسران العرب أنهم كانوا يفتقرون للمؤسسات في حين امتلكها الصليبيون الذين كان لديهم أيضًا طرق واضحة لتنصيب الملك ومركزية في الحكم. هذا الأمر، في حين أنه صحيح لدرجة كبيرة اليوم وفي الماضي القريب، إلا أن غياب المؤسسات في ذلك الوقت يشمل العرب والصليبين على السواء. لا يجب أن ننسى أن الصليبين كانوا قبائل متفرقة اجتمعت تحت إمرة عدة ملوك بدون قانون أو دستور ولكن جمعهم هدف واحد فقط. ألمانيا مثلاً كانت مقطعة لعدة دويلات تتناوش فيما بينها تمامًا كما الدويلات الإسلامية وبقية على هذه الحال لعدة قرون بعد الحملات الصليبية. كذلك تقاتلت العائلات الإنكليزية والاسكوتلندية على العرش الإنكليزي تمامًا مثل السلاطين والأمراء، والعديد من أمثلة الاقتتال الداخلي الأخرى، عدا عن الحروب الطويلة بين الأمم الاوربية المختلفة التي رأينا ناهيتها فقط عند الحرب العالمية الثانية عندما قتل خلق كثير لا تقارن أي حرب أهلية بها. والأمر يمتد أيضًا للشرق، مثل تمرد لوشان وغزو سلاسة تشينغ في الصين، حيق قتل ملايين البشر في تلك الحروب الداخلية الطويلة. كل ذلك في ظل غياب للمؤسسات الموحدة والرؤية الواضحة للحكم وإنما صراع حميم للحصول على السلطة.
تكمن أهمية هذه النقطة في أنه، كما يقول تولستوي، لا يمكننا تبرير وقائع تاريخية، من انتصارات أو خسارات، يشارك بها آلاف البشر ومجموع أقدارهم بسبب أو سببين.. أو حتى عشرة. هنالك عوامل لا محدودة اجتمعت سويًا لتظهر هذه النتيجة بالضبط، ولو أن أصغر الأمور قد تغيرت لاختلفت النتائج تمامًا. وهو ما يظهر بوضوح في سرد معلوف للأحداث بعيدًا عن إنزال النصر في بطولات القائد الفلاني أو تضحيات غيره، حيث يظهر في أكثر من موضع أن سبب الانتصارات في معركة ما أو عدم استيلاء الغرب على الشرق بالكامل كان خيانة فرد واحد أو علقان الخيل في الطين أو حتى وفاة ملك على الطريق. بالطبع لا يجب أن نقع في نفس الخطأ ونظن أن السبب هو “فقط” خيانة فلان؛ يجب أن ندرك أن هذه الخيانة، مثلاً، هي نتيجة تراكم سنين من القمع، وهنالك أيضًا ضعف الجيش، قلة المؤازرة…الخ. النقطة هنا أن المنتصرين لم يفوزوا بكدهم فقط ولا الخاسرون خسروا بضعفهم فقط، ومن الصعب حصر الموضوع في أ و ب من الدروس المستفادة.
النقطة الأخرى التي يذكرها معلوف هي عدم قدرة العرب على تجاوز الحملات الصليبية، ومنه عودة قادة أمثال السادات وعبد الناصر لذكرها في عدة سياقات. يفوت معلوف عدد المرات التي تذكرها الغرب أيضًا؛ بدءًا من التحالف لغزو العراق الذي هلل له العديد من المتشددين بأنه الحملات الصليبية الجديدة، وحتى مجابهة تطرف داعش بتطرف مشابه تحت دعوى انه الانتقام المسيحي من تجاوزات التنظيم ضد الديانة. ونجد كذلك تغني وتمجيد لهذه الحملات الغابرة في بيانات متطرفين بيض مثل مجرمي نيوزيلندا والنرويج وغيرهم. كلا الطرفين، بالطبع، مخطأ في توجهاته المبنية على سموم أيدلوجية حاقدة، ولكن ما يفوت معلوف ذكره في هذا الإطار هو مدى التشابه بين الماضي والحاضر ومدى تكراره بشكل مخيف، وخاصة على المستوى المحلي. بالنظر إلى الانقسامات العربية على مستوى الدول بالمُجمل، وحتى الفرق والاقتتال الداخلي التي ظهر بعد احتلال فلسطين وحرب لبنان وبعد الثورة السورية والليبية، حيث صار كل أمير أو حاكم ينزوي في قلعته التي سيطر عليها بالدم في ظلّ انفصال تام عن باقي المجريات، وعدم وجود نظرة بعيدة، فيما يقوم “الغريب” بقضم المناطق واحدة تلو الأخرى. الأمر يشبه الماضي بشكل مرعب لدرجة أنه يمكنك في كثير من الأوقات استبدال الأسماء فقط وستبقى القصة منطقية وصادقة في وصف الواقع! ما يجعلنا نتساءل عن جدوى الدروس والإرادة إن كنا نعيش في حلقة متصلة حيث يكرر التاريخ نفسه دائمًا وأبدًا بشكل حتمي.
في مسألة أخرى يقول معلوف أن الصليبين كانوا مندفعين لتعلم كل شيء من العرب والمسلمين وحتى اللغة، فيما لم يتعب العرب أنفسهم تعلم لغة الصليبين. وهذا الأمر غير واقعي أيضًا حيث أن كل محتل يرغب في تعلم لغة أهل البلد لمعرفة الدسائس وتقوية نفوذه، لكن الطرف الآخر، من طابع كرهه للمحتل واعتداءه، ينأى عن ذلك. وإذا نظرنا للعرب فيما عدا الحملات الصليبية رأينا أنهم تعلموا الفارسية وكُتب الجاحظ غنية بمصطلحاتها التي يبدو أنها كانت شائعة بين الناس، وتعلموا الكردية والأوردية -من حيث أتت الأرقام-، وترجموا من اليونانية واللاتينية رغم انقطاعهم عنها. على الطرف المقابل لم يتعلم العربية من الغربيين إلا من كان له مصلحة بها في بلاد العرب، أما في أوربا نفسها فبقيت العربية لغة الكفار المحرمة دون أن يتعلمها إلا قلة من العلماء الفضوليين. لكن معلوف محق عندما يقول أن الحملات الصليبية كانت أحد أسباب خروج أوربا من عصر الظلام. قد لا يكون الموضوع متعلقًا تمامًا بنقل العلم والمعرفة كما يطيب للبعض الجزم، ولكن الصراعات، وحتى اليوم كما في سباقات التسلح، هي أكبر محفز لنهضة الأمم. لا شيء يُسرع التطور البشري أكثر من رغبة الإنسان أن يكون أقوى وأكثر غلبة من أخيه الإنسان.
روعة الكتاب، كما أسلفت، أنه يروي الأمور كما هي- دون تعظيم لدور فلان أو جلد الذات بسبب الابتعاد عن الله أو غيره، مع إشارات ذكية ولماحة إلى سخرية التاريخ البشري ومهزلته رغم سوداويته، حيث تُعجب ملكة برجل فتُتوجه ملكًا وقائدًا للأمم، وأُمّ تقتل ابنها بسبب السلطة، وآلاف من البشر يموتون بسبب نزوة مراهق لم يبلغ الحلم.
ما يمكن الاستفادة منه في هذا الكتاب، ويخص جميع البشر وليس فقط العرب، أن التاريخ البشري هو تاريخ صراع على السطلة وكسر الآخر. فعلاً، لُعن البشر يوم أن قال أولهم هذه الأرض لي. ترينا القصة كم قتل من الرجال والنساء والأطفال فقط ليقول فلان هذه أرضي وهؤلاء رعيتي وأنا أحق بهم- تمامًا كما الغابة، رغم كل محاولات الإنسان ليبعد هذه الشبهة عن نفسه.