تقييمنا: ينصح بها للمتقدمين في قراءة الروايات
” أنا لا محدود الموارد…أنا مبدع، شاب، غير موسوس، لدي حماس ومهارات عالية. ما أقوله جوهريًا أن المجتمع لا يقدر على خسارتي. أنا ثروة”.
تعد رواية المختل الأمريكي American Psycho أحد روايتين حددتا شكل أمريكا في نهاية القرن الماضي وبداية الحاضر. الرواية الأخرى هي “نادي القتال” لشاك بالينوك والتي تعكس سخط الشباب المقيد بالديون في مجتمع خال من الفرص والانتماء. المختل الأمريكي من ناحية أخرى تركز على الإفلاس الأخلاقي للنخبة الغنية وإعادة تعريف الحلم الأمريكي كما هو مشوه عبر رأسمالية المستهلك الفردانية.
كان التأثير الزلزالي لكلتا الروايتين مدويًا، ولكن في حالة المختل الأمريكي ترافق ذلك بغضب عارم. بدأ الأمر مع دار سيمون آند سوشتر التي أخبرت الكاتب Bret Easton Ellis أن بإمكانه الاحتفاظ بالدفعة البالغة 300 ألف دولار حيث أنها لن تقوم بنشر الرواية أبدًا، وعندما قامت فنتاج بشراء الحقوق ونشرها أكدت كل الشائعات التي راجت عن سادية الرواية وفجاجتها، ووصفها الكثير من النقاد بالمثيرة للغثيان. أما الجمعية الوطنية للمرأة فهددت بمقاطعة دار النشر بالكامل، فيما تلقى بعض المدراء التنفيذيون في الدار تهديدات بالقتل (أليس غريبًا أن يكون الاعتراض على رواية بسبب العنف الذي بها على شكل تهديد بالقتل؟!) وحظرت ألمانيا العمل فورًا في وقته. أما المدافعون أدبيًا عن الرواية فكانوا قلة أبرزهم نورمان ميلر المشهور بإثارة جدل مماثل.
بعد هدوء موجة التفاجؤ والغضب ومرور 25 عامًا على نشر الرواية، صار المختل الأمريكي الآن بمثابة عمل أدبي كلاسيكي عن نقد المجتمع والذكورية المشوهة. بيع منها ملايين النسخ وتحولت لفلم شهير ومسرحية موسيقية في برودواي.
تبقى الرواية أحد أهم الانتقادات لعواقب الثقافة الرأسمالية المعاصرة. فمن خلال رسم صورتين متوازيتين لطقوس السيطرة والتحكم في وول ستريت، والحياة الشخصية لمختل، يظهر لنا إليس كيف يتحول الغرور والاعتداد بالمكانة الاجتماعية إلى سادية ناعمة ثم عنف حقيقي تُعمينا عنه العادات الغريبة للنخبة التجارية، فمن المحتمل أن يعتبر بيتمان بسهولة نموذجًا للنجاح الأمريكي لولا كونه مختل عقليًا وقاتل.
ثم إن الهوس المرضي للشخصية الرئيسية بالهندام والمظهر المثالي يُأكد هدف إليس المعلن لوصف “مجتمع أصبح فيه المظهر هو الأمر الوحيد المهم”. وتعدى المؤلف هجاء النرجسية والنزعة الاستهلاكية بمقارنة بيتمان بأصدقائه ودخولهم في منافسات وحنق على بعضهم بسبب كرت عمل أو حجز مطعم… إنهم جميعًا نسخ مكررة من بعضهم؛ يرتدون نفس الثياب، والتحقوا بنفس الجامعات، وناموا مع نفس النساء…الخ. الملفت في نفس الوقت أن الشخصيات في الرواية سطحية في ذاتها وتجري وراء صورة الكمال والمثالية التي تدفع بها الإعلانات والبيانات التجارية (هكذا يبدو تمامًا بيتمان عندما يتحدث عن الملابس والكريمات) ومن هنا يصبحون صور مكررة كأنها خارجة من خط انتاجي.
تُشبه شخصية بيتمان شخصية روبرت في فلم ألفريد هيتشكوك The Rope حيث أن كلاهما معتد بنفسه وتفوقه مما يمنحهما الامتياز لتصفية العالات على المجتمع (كما فعل بيتمان مع المتسول) واختزال أي بشري إلى مادة يمكن التصرف بها لصالح متعتهم الشخصية. ولكن في حالة ألفريد كان الوصول إلى هذا الاعتقاد هو نتيجة التفكير الأكاديمي أو الفلسفي المنفصل عن الواقع والذي يعامل البشر كبكتيريا تحت المجهر، أما في حالة إليس فإن الشخصية هي تحقيق لنبوءة ماكس فيبر في أن الرأسمالية سترعى جيلاً من “الشهوانين الذين لا يملكون قلبًا”؛ حيث أن السعي وراء اكتناز الثروة في ظل غياب الجوهر أو الرادع الأخلاقي (مثلما كان يفعل الدين مثلا عند فيبر) يؤدي إلا انتاج مسوخ مكررة غنية ماديًا ومفلسة أخلاقيًا.
من خلال مزج الأنشطة اليومية الروتينية لبيتمان مع جرائم القتل الوحشية، تغلق الرواية بشكل غير مريح الفجوة بين الجوانب الثقافية الذهنية للولايات المتحدة – الثروة، هوس السلاح، العسكرة في الخارج، زيادة حماسة الجيش في الداخل، والاكتئاب. الاستعارة تمثل ثقافة تستسلم للنزعة الاستهلاكية المادية التي تدمر المجتمع من خلال القضاء على قيمه الإنسانية لصالح الهوس بالصورة.
لكن العنف والسادية التفصيلية الموجهة ضد النساء في الرواية تطرح مشكلة عميقة. فالنسويات يعترضن هنا أنه في نظام أبوي تسطلي حيث تتعرض المرأة بالفعل للعنف فإن عرض إساءة المعاملة والتعذيب ليسا عرضًا ساخرًا من الوضع ولكنه عرض ترفيهي عام.
من الصعب عدم التعاطف مع هذا الرأي، لكن أول ما يجب تذكره عن American Psycho هو أن كل شيء داخل الرواية مبني بالكامل، بناءً على الثقافة المحيطة بالوقت الذي كُتب فيه الكتاب. هذه الحقيقة البديهية جديرة بالتذكير لإصرار البعض على فكرة أن الشخصيات تمثل الكاتب وهذا غير صحيح بتاتًا. فكما أن هامبرت هامبرت لا يعكس صورة نابكوف فكذلك لا يعبر بيتمان عن رأي إليس حول النساء.
الأمر الثاني هو أن الرواية تدور دائمًا حول القارئ قبل الكاتب. كقراء، نقوم بتحليل الروايات من خلال العدسة الثقافية الخاصة بنا والرد عليها وفقًا لذلك. إن أفضل الروايات تستحضر شيئًا قويًا في كل من أنفسنا والعالم من حولنا. وبالتالي لا يمكن أن يكون هناك تحليل “موضوعي” شامل للرواية.
تبعًا لما سبق، إذا نظرنا إلى رواية الجارية لمارجريت آتوود، ورغم أنها تحوي الكثير من العنف بحق النساء والاغتصاب إلا أن الكاتبة تعتبر نبية نسوية تحذر من وضع محتمل مخيف. لو أن كاتبة ألفت المختل الأمريكي لربما كانت قوبلت كعمل نسوي فذ ينتقد سيطرة الرجال في عالم الأعمال وساديتهم. إن هذا التركيز على حامل الرسالة عوضًا عن الرسالة نفسها ينبع من الفكر السياسي ولا محل له في الفضاء الفني بلا شك.
لكن المصدر الرئيسي لعدم الارتياح فيما يتعلق بالرواية، ربما، هو أنه على الرغم من تصوير بيتمان على أنه سطحي، نرجسي، كاذب، كاره للنساء، وعنصري، فإن أسلوب السرد للمختل الأمريكي تجبر القارئ على تبني وجهة نظره؛ كما يحدث غالبًا مع السرد بصيغة الذات، ويحتمل القارئ عمومًا أفكار البطل. بالتالي، إن القارئ متورط في كل من العنف وسطحية المجتمع الاستهلاكي. لكن هذه المشاركة تتطلب بشكل حاسم أن يصدر القارئ نوعًا من الحكم الأخلاقي على طبيعة هذه الأفعال. يمكن أن يكون ذلك على طيف يتراوح من الاشمئزاز التام إلى اللامبالاة، وربما حتى إلى الاستمتاع الضار. النقطة المهمة هي أن القارئ مجبر على مواجهة مشاعره في سياق قيم المجتمع الذي نحن جميعًا جزء منه.
الهدف من المواد الإباحية هو إنتاج الإثارة الجنسية. وبينما تشمل الرواية على مشاهد إباحية إلا أنه يتم صياغتها ووضعها بعناية في إطار من الرعب والتخويف، ولا تدور حول الإسقاطات المنحرفة للكاتب، والتي تم تصميمها لتغذية رغبات فئة من القراء المختلين. عندما سُئل بيتمان ماذا يفعل كعمل أجاب: “القتل والإعدام” سُمع جوابه بالصيغة المالية المشهورة: “عمليات الدمج والاستحواذ”. بيتمان يقوم بتحويل ضحاياه إلى مواد لا أكثر، لذلك كان إليس محقًا في أن يكون تعبيريًا بقدر الإمكان في مشاهد القتل؛ بدونها كانت الرواية حلاً وسطًا وغير مؤثر.
لا يمكن كسب الكثير في محاولة تحليل المشاهد العنيفة في الكتاب. إن القيام بذلك هو مرضي أكثر بكثير من المشاهد نفسها، التي تعمل فقط من أجل إظهار الإرث البربري للعالم الاستهلاكي / الإمبريالي الذي نعيش فيه، وهو الاهتمام الموضوعي الحقيقي للرواية. المشاهد العنيفة سوف تزعج الناس الذين لديهم حساسية أو يفتقرون إلى القدرة على إبعاد أنفسهم عنها. ومع ذلك فهي ضرورية للغاية لاستخلاص شعور قوي من القارئ ودفعه للاشمئزاز من هذا الوضع الاجتماعي.
تبدو المراجعات السلبية التي تلقتها الرواية الآن شبيهة بذكريات الخوف الطفولي الغير مبرر. لقد جاءت من أشخاص أذكياء لم يتمكنوا من التغلب على صدمتهم فأُصيبوا بهلع أخلاقي. هذا الخطأ هو شهادة على قوة الكتاب وتأثيره.