التصنيفات
روايات

السرعة في البطء

يتسائل كونديرا: لماذا اختفت متعة البطء؟

كجميع الروايات المكتوبة بأسلوب تدفق الأفكار، تبدو “البطء” غير ذات نمط محدد أو موضوع مركزي، وإنما كأننا نجول في أفكار الكاتب المشتتة. لكن كونديرا هنا آثر الإفصاح عن موضوع الرواية بشكل واضح، ومبكرًا جدًا. يعلن كونديرا: “لماذا اختفت متعة البطء؟” مهاجمًا الاستعجال والسرعة التي تجعلنا التكنولوجيا نعيشها نازعة الاستمتاع من كل شيء.

رغم هذا التصريح عن الموضوع المركزي للرواية لا تصبح الأمور تاليًا سهلة. فالمؤلف ينتقل من قصة لأخرى بسرعة، من المزاح إلى التهكم، من السرد الدرامي إلى التوثيق التاريخي الجاف، من سرد الرواية كمشاهد مرة إلى المشاركة فيها تارة أخرى، ومن التأمل إلى النقد، وقد تبدو الأمور في البداية غير مترابطة ومشتتة لكنه يلف ويعود ليذكرنا بالموضوع الرئيسي مرارًا وتكرارًا، وتلك القصص التي بدت عشوائية تصبح منطقية وجزءً من كلٍّ واحد في النهاية، كألوان متناقضة تصير منطقية عندما تجتمع في لوحة فنان قدير.

يستخدم كونديرا الرواية التي يقرأها وهي ”Point de Lendemain” (لا غد) والتي يعتقد أنها تمثل فن وروح القرن الثامن عشر لإجراء مقارنة بين عصر ما قبل الثورة وعصرنا هذا، مع بقاء شخصيات الروايتين وكونديرا في نفس القصر (chateau).

المقارنة الأولى هي بين العلاقة المستعجلة بين فنسنت وجولي، ففور لقاءهما وبدون محادثة طويلة أو هامة يحاول فنسنت إغواء جولي بسرعة لإقامة علاقة معها ولإشباع شبقه المستعر والآني للمؤخرة. إن استعجالهما لإقامة علاقة في مكان عام وكيفما اتفق أدى إلى انتهاءها بفشل ذريع ومضحك، في حين أن إغواء السيدة تي للفارس والذي أخذ الليل كله وبتروي انتهي بليلة لا تنسى.

الكلمة الأخيرة تذكرنا بفلسفة أخرى طرحها كونديرا وهي أن البطء يتناسب طردًا مع التذكر، والسرعة تتناسب عكسيًا مع التذكر، هذا الأمر نشاهده في النهاية عندما يلتقي البطلان من الزمنين المختلفين، ففنسنت الذي بُلي بعلاقة فاشلة يركب دراجته مسرعًا إلى منزله لكي ينسى ما حصل، أما الفارس الذي قرر أخيرًا أن تلك ليلة سيذكرها دائمًا فإنه يمضي على مهل.

من المقارنات التي يجريها كونديرا كذلك هي تلك المشيرة إلى أن التحرر والعفوية ليستا دائمًا السبيل إلى المتعة والحرية الحقيقية. يقول لنا، انظروا إلى السيدة تي وفارسها، لعبة الاختباء والإغواء التي مارساها، والعلاقات المعقدة، وممارسة الحب برسمية عالية جعلت العلاقة ممتعة أكثر وصلت لدرجة الفن … فن الوجود، في حين أن فنسنت وجولي المتحررين من أي قيود متمثلة خصوصًا في عدم خوفهم من أيشاهدهم أحد عند المسبح العام، انتهى بهم الأمر بفعل شيء مقزز غير تام، حتى عضو فنسنت رفضه!

وعابرًا الزمن بين رواية لا غد وروايته يناقش كونديرا مسألة بعيدة عن البطء والسرعة، هي الشهرة. فمؤلف رواية لا غد Vivant Denon نشر الرواية في البدء رافضًا وضع اسمه عليها، ليس رفضًا للشهرة كما يبرر كونديرا بل لأن “الشهرة عنت شيئًا آخر في ذلك العصر”. أما الساسة الذين يستخدمهم المؤلف في روايته فهم لا يفعلون أي شيء حتى يفكروا كيف سيظهر على الشاشة وفي الأخبار أو إن كان سيظهر في الأساس، ويصل كونديرا في النهاية إلى استنتاج غريب، وجدته محقًا جدًا، وهو أننا لا نفعل أي شيء اليوم، في عصر التلفاز، إلا ونحن نتخيل أنفسنا أمام جمهور عريض يشاهدنا، وهو ما حصل مع فنسنت وجولي وهما يمارسان الجنس في المسبح متخيلين جمهورًا جالسًا على المقاعد ولكن غير ابهين به.

وبعيدًا عن المقارنات يسخر كونديرا من العلاقات التي نعيشها اليوم، ففنسنت يختار فتحة مؤخرة جولي لتكون موضوع شبقه الكامل ولا يرى أي شيء سوى ذلك، بل يجعل من الأمر مسألة رومنسية يرى فيها النجوم، وكان فرويد سيفرح بهذه القصة. أما إيماكوليتا والمصور فهما مثال نراه كثيرًا لعلاقة التفريغ النفسي واحتقار الآخر المبني على احتقار الذات وأنها لا تستحق ما هو أفضل، وبالرغم من أكلاً منها يحتقر الآخر ويذله فهما يستمران في ممارسة الجنس و”سيتمران في فعل ذلك”.

الغريب، ربما، في هذه الرواية أنه بالرغم مما استنتجناه من “البطء” عن كون السرعة تستأصل المتعة وتقتل التذكر، إلا أن هذه الرواية كانت سريعة جدًا … 130 صافحة هي نصف صفحات أي رواية أخرى كتبها كونديرا، ومقارنة بأي رواية أخرى تظل “البطء” قصيرة، والأحداث مروية بتعاقب وتواتر وسرعة في سبيل الوصول للنهاية.

هل فات هذا الأمر السيد ميلان ؟!

في الحقيقة، لا. لأننا في منتصف الرواية وأثناء طوافنا في أفكار الكاتب يقاطعنا كونديرا فجأة ليشاركنا إحدى مخاوفه معبرًا عنها من خلال زوجته. إنه يخشى أن يكون جديًا ولا يصلح لإتمام هذه الرواية الكوميدية لذلك فهو يعتمد السرعة لأن المزاح يتطلب الخفة وبالتالي السرعة، في حين أن الجد يتطلب التمهل والتأني. وفي الحقيقة هذا أمر منطقي جدًا، فلو طالت هذه الرواية وأمضى المؤلف الصفحات في وصف القصر والطقس والشخصيات، لأصبحت مرهقة ومملة.

تبقى في النهاية العديد من الأمور مخفية في هذه الرواية ولا ينتبه إليها إلا من لمست فيه شيئًا داخليًا، فكما قال كونديرا “الأشياء ليست بسيطة كما تبدو”. وهو ينتهج منهجًا يفضله الكثير من الرواة العظام وهو عدم الإشارة للقارئ بالإصبع إلى الأفكار وإنما تركه يصل إليها عبر تجربته الخاصة عندما تتقاطع مع القصة المروية.