ألدوس هكسلي الكاتب الذي يعتقد ألا كاتب آخر بمثل ثقافته قام خلال عمله في مدرسة إتون بتدريس الفرنسية لـ إريك بلير والذي سيعرف لاحقًا بجورج أوريل. معلومة ملفتة بما أن الناس يقارنون في الغالب روايتي العبقريين ببعضهما.
في الحقيقة، إن ما يحصل هو في الغالب تشبيه وليس مقارنة فالأمر غالبًا ما يكون على شاكلة: “عالم جديد رائع تشبه 1984” وذلك كقول أن رواية Pride and Prejudice تشبه Women in Love فقط لأن كلتاهما روايتا عشق. أو “عالم جديد رائع تذكرني بسوداوية 1984”.
حتى هكسلي يقارن روايته مع رواية أوريل في كتابه Brave New World Revisited الذي نشر في 1958 كملاحظات الكاتب على المستجدات التي حدثت في العالم بعد نشر ورايته. إلا أن مقارنة هكسلي هنا هي مقارنة أفكار وآراء كما يحدث حين نقارن أفكار هيغل بأفكار ماركس مثلا وليست مقارنة تشبيهية كما يحصل للأسف.
إحدى أهم هذه المقارنات والتي تشكل الفرق المركزي بين الروايتين، هي أن أوريل يتنبأ بالمستقبل والعالم في حالة حرب، هذا الواقع يجعل حكومات ذاك العالم تسلطية وفي حالة استنفار دائم. أما العالم عند هكسلي فهو في سلم والحكومات تسعى لمنع النزعات واستقرار الداخل. هذا الأمر يغير كل شيء، من التزايد السكاني، للجنس، لأسلوب التعامل، ويبقى شيء واحد قائم في الروايتين هو ما أطلق عليه هكسلي في Revisited التنظيم الزائد Over-organization أو الدكتاتورية.
“عالم جديد رائع” عنوان الرواية، و “آه أيه العالم الرائع الذي يحوي أناسًا كهؤلاء ” التي يرددها البدائي مرارًا في الرواية هي جملة من مسرحية شكسبير The Tempest الفصل الخامس، المشهد الأول:
O wonder!
How many godly creatures are there here!
How beauteous mankind is! O brave new world,
That has such people in’t.
تستخدم كثيرًا للمفارقة عند اكتشاف عادات شعوب جديدة، ولا غرابة في أن يستلهم هكسلي العنوان من شكسبير فهو معجب كبير به، ويقدره جدًا ويشير إليه ويقتبس منه مرارًا في الرواية، فهكسلي قبل أن يكون روائيًا كان شاعرًا وهو أمرٌ نلاحظه أيضًا بوضوح في الرواية من خلال كلماته الجميلة والتي تأتي في مكاناها بذكاء، حتى نستغرب مدى ملائمتها للمعنى. مع ذلك، فإن استخدامه للكلمات لا يدفع بالرواية في اتجاه الشاعرية وبعيدًا عن القص، وليس متكلفًا مثل جوزيف كونراد، مثلاً. ولقد تحدث هكسلي فيRevisited عن أهمية الاستخدام المناسب للغة وكيف أننا لا نراعي هذا الأمر في التعليم الحديث بالرغم من أن هنالك ثلاث أجيال من الفلاسفة فرغت نفسها لتحليل اللغة والمعنى خلف المعنى. أما في الرواية فنلاحظ أنهم في المستقبل يستخدمون لغة سطحية جدًا وتافهة بعكس البدائي الذي يأتي بلغة شكسبير “الساحرة” ولكن التي لا يفهمها أحد.
أكثر المواضيع وضوحًا في الرواية هو مسألة الانفتاح الجنسي … دعوة الجميع للترويح عن أنفسهم بممارسة الجنس، وعدم كبت غرائزهم، وهو بعكس 1984 تمامًا بسبب مسألة الحرب الآنفة الذكر. ونحن نشاهد تحقق هذا الأمر اليوم، فكما أوضح الأمر الدكتور سولومن من مسلسل 3rd Rock from the Sun: “…مسلسلاتهم حول الجنس، أحاديثهم حول الجنس، الأغاني حول الجنس، أخبارهم من مارس الجنس مع من، الكل مشغولون به…” وهذا هو الوقع بالفعل. ورغم أن أحد المشاركين في مقال حول رواية عالم جديد رائع في جريدة نيويورك تايمز يظن أن هذا الأمر ناتج عن الانفتاح، وهو الأمر الوحيد الذي نجح هكسلي في توقعه، إلا أن مسألة الجنس، حقيقةً، عند هكسلي ليست سوى مسألة فرعية ناتجة عن همّ أكبر يشغل المؤلف… ليس غريبًا هنا أن كاتب المقال اعترف أنه وجد أجزاءً من الرواية صعبة ولم يفهمها، الغريب أنه لم يتعب نفسه قراءة ملاحظات هكلسي قبل أن ينتقد الرواية.
همّ هكسلي الأول كما ورد في Revisited هو الازدياد الغير معقول في التعداد السكاني. في الرواية يحافظ على التعداد عند بليوني نسمة. و أوضح هكسلي أن التعداد ازداد في الواقع بين فترة كتابة الرواية وكتابة الملاحظات-ما يزيد قليلاً عن عقدين- 800 مليون نسمة، وهو رقم مخيف كما يشير –أتساءل عن رأيه عندما يعرف الزيادة اليوم- لأن هذه الزيادة المطردة لا يكافئها زيادة مناسبة في الموارد وسيأتي الوقت التي لا تكفي فيه الأرض لعدد البشر، مما يدفعهم لنهش لحوم بعضهم البعض ويخل بالاستقرار الداخلي، مما سيقود الحكومات، وذلك للحفاظ على هذا الاستقرار، باعتماد طرق للسيطرة على “العدو البيولوجي للحرية” كما يدعوه.
يعترف هكسلي في ملاحظاته أننا مازلنا بعيدين عن المقدرة على انتاج البشر بأنفسنا، ولكن السيطرة على النمو السكاني أمر ملح والجميع يعلم ذلك ولكن لا أحد يفعل شيئًا اتجاهه … لا أحد يأمن بضرورة إيجاد “حبة” لوقف الحمل … وإن وجدت من سيأخذها الرجال أم النساء؟ من سيحدد فئات العالم التي يجب أن تأخذها؟
أما عندما يتم تحديد عدد المنتج البشري كما في الرواية فإنه لا يوجد أي مانع من الانفتاح الجنسي، بل هو وسيلة للمكافئة، والأهم الإلهاء… إلهاء المواطنين عن التفكير والامتعاض من الطبقات الاجتماعية. وفي غياب الروابط العائلية لا شيء يدعو للخجل أو الخوف من الارتباط، نفس السبب الذي يجعل بعض المجتمعات منفتحة جنسيًا اليوم وهو ما فات المشارك في النيويورك تايمز.
يُقلق هكسلي كذلك مسالة الجودة. فهو يتساءل: هنالك الكثير من البشر ولكن بأي جودة؟ أكثرية سكان الأرض اليوم غير متعلمين ويعيشون تحت خط الفقر، والتطور الصحي والتكنولوجي لا يفيد كثيرين فعلاً … فمثلا، يذكر هكسلي، يتم إنقاذ مئات الآلاف في افريقيا من الموت نتيجة الملاريا، ولكن ماذا يحدث لهم بعد ذلك؟ هؤلاء ليس لديهم تعليم ولا مصدر رزق مناسب، وعوضًا عن الموت بالملاريا، سيموتون ببطء نتيجة الفقر والجوع.
إن هذا الازدياد المطرد في تعداد السكان ونقص الجودة وعدم ازياد الموارد، سيؤدي إلى الحاجة إلى ازدياد التنظيم، وإن التنظيم سوف يستمر في الزيادة حتى يصبح تنظيمًا فائضًا يتدخل في كل شيء هو دكتاتورية.
إن “المتحكمين” في عالم هكسلي يتبعون في السيطرة على مواطنيهم طرق علمية؛ نفسية، سلوكية، اقتصادية، واجتماعية وليس الطريقة السيادية السادية كما في 1984، وهو حقيقة ما يحدث برأي. وينبأنا هكسلي في ملاحظاته أن هذه الطريقة هي التي ستتبع أكثر فأكثر مع الوقت وليس الأسلوب الوارد عند أوريل.
في عالم جديد رائع نجد أن الحكومة تقوم منذ صغر مواطنيها بتوجيههم سلوكيًا، كما فعل بافلوف مع كلبه، ليكرهوا الجمال والريف وحتى الإله وأي شيء لا يتواءم مع الـ propaganda خاصتها، أو لتقبل مرتبتهم الاجتماعية ووظائفهم التي ستناط بهم دون اختيارهم، وحتى لتقبل الموت بفرح، كما رأينا عند توزيع الشوكولا على الأطفال عند موت لندا. وكذلك، يقدمون للشعب أفلام، تشاهد في feelies وهي قريبة جدًا لسينما اليوم ثلاثية الأبعاد، ولا بد أن تصل التكنولوجيا لها قريبًا، لكن هذه الأفلام هي فقط مثير جنسي لإلهائهم عن أمور أخرى، ولا تختلف كذلك كثيرًا عن معظم أفلام اليوم.
كما هو الاستخدام لعلم النفس وعلم الأعصاب وعلم السلوك في روايته، يحذرنا هكسلي من أننا أصبحنا نعيش هذا الواقع اليوم، وهذا الأمر هو أداة في يد الشركات الكبرى التي ترسل مئات من الرسائل المخفية في أفلامنا وبرامجنا، بل وحتى تسيطر على الأعلام ككل… أفليس غريبًا أن كل وسائل الإعلام الأمريكية هي ملك لإحدى ست شركات فقط، إحداها كانت لفترة طويلة General Electric … لا بد أن تتساءل ما دخل شركة كهربائيات مثل جنرال إلكترك بوسائل الإعلام… إن هذا ما يحذرنا هكسلي منه … شركات الإنتاج الضخم، والتي يصبح مبتدعها في روايته بمثابة الرب للعالم الجديد … نعم هنالك ديمقراطية، يقول هكسلي، ونعم يمكن لأي كان أن يبدأ صحيفة كما يشاء، ولكن هل له القدرة على منافسة العمالقة الكبار؟ ألن يتم سحقه بالتكاليف عوضًا عن الأسلحة؟ إن هذه الشركات الكبرى هي التي تسن القوانين، وتقرر ما الشائع، وما هو مقبول وما هو خاطئ، وتسمم عقولنا بأفكارها سواءً شئنا أم أبينا.
وأين هم الناس من هذا؟ هم مشغولون برزقهم، بلقمة العيش الغير متوفرة بسبب كثرة السكان، يقولون لك “أعطني خبزي وافعل ما تشاء” ويذكر لنا هكسلي إحصائية أن 50% من المراهقين الأمريكيين لا يهمهم ديمقراطية البلد ولا من يحكم ولا من يتخذ القرار.
إن ما يمكن الحديث عنه حول هذه الرواية كثير جدًا وطويل جدًا، لأنه لم يعد يناقش المستقبل، بل واقعنا اليوم، فالتكنولوجيا تتطور أسرع مما تصور هكسلي، ولا أفضل من القراءة في هذا الخصوص سوى Brave New World Revisited. هو كتاب اجتماعي رائع ومهم بذاته، لكن الرواية تعطينا تصورًا لهذا الواقع. ويظهر الكتاب مدى اطلاع وسعة ثقافة هكسلي في العلوم كافة، وكل ما أورده في الرواية من تجارب نفسية هو علم مطبق بالفعل، عدا مسألة البرمجة اللغوية أو البرمجة أثناء النوم، فرغم منطقية الموضوع، وخاصة إذا قرأت لفرويد عن اللاوعي كما فعل المؤلف، إلا أنه ثبت عدم جدوى ذلك.
من الأمثلة عن سعة ثقافة هكسلي أنه إذا كان في حديث وذكر مثلا موضوع اتيكيت تناول الطعام في العصر الفيكتوري فإنه يقوم بعفوية ودون أي تلكأ بذكر قائمة طعام الأمير إدورد المعتادة وجبةً وجبة، وطبقًا طبق من البداية وحتى آخر فتاته!
في 22 تشرين الثاني 1963 خسر أدوس هكسلي معركته مع السرطان والتي دامت ثلاث سنوات، حيث حقنته زوجته ليلتها بجرعة LSD بناءً على طلب منه. لم ينتبه كثيرون إلى وفاة هذا العبقري يومها لأنهم كانوا مشغولين بعملية باغتيال جون كينيدي والتي حصلت بعد ظهر نفس ذاك اليوم.
بخصوص الترجمة العربي
إن ترجمة الشريف خاطر والتي يفترض أن مختار السويفي راجعها هي إهانة وخيانة فكرية. في البداية لم يكن المترجم يعرف أن المقصود بفورد هو فورد مؤسس شركة فورد للسيارات والذي اخترع خط الإنتاج المستمر فاتحًا الباب أمام الإنتاج الضخم Mass Production الذي يعتقد هكسلي أنه سبب الشر، لكن المترجم يظن أن هكسلي اختار فورد فقط لأنه على وزن Lord! تبع ذلك استخدام مقرف للكلمات عوضًا عن لغة هكسلي الرائعة؛ مثل ترجمة feelies إلى سينما.
ثم اكتشفت سريعًا أن نصف الرواية، ربما أكثر، قد تم حذفه أو التغاضي عنه. الفصل السابع عشر الرائع على سبيل المثال، والذي يناقش فيه البدائي “الله” مع المتحكم، كله محذوف ما عدا صفحتين … في الحقيقة كل الأمور المهمة محذوفة من الرواية ما عدا ما يبقيها كرواية خيال علمي للمراهقين.
ترجمة مروة سامي على الجانب الآخر أمينة ومحترفة ولكن ربما لمن تنقل لغة ألدوس المنمقة بكل جماليتها.